الحديث الـ80 ، 81
في متابعة الإمام ح 80
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا , وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ .
ح 81
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ , فصَلَّى جَالِساً , وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً , فَأَشَارَ إلَيْهِمْ : أَنْ اجْلِسُوا ، فلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ , فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا , وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا , وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ , وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ .
في الحديثين مسائل :
1= قوله : " إنما " تُفيد الحصر والقَصْر ، أي إنما جُعِل الإمام يَؤمّ الناس لِـيُقتدى به .
2= قوله : " فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ " الأمر يقتضي الوجوب ، والنهي يقتضي التحريم ، والوجوب والتحريم بحسب المخالفة ، فإن كانت المخالفة يسيرة فإنها لا تحرم ، وإن كانت كبيرة فإنه تحرم ، وسبق التفصيل فيها .
3= إذا خالَف المأموم إمامه في تطبيق بعض السُّنن ، هل يدخل في النهي ؟
الذي يظهر أنه لا يدخل في النهي ، لأن المخالفة يسيرة ، والمأموم إنما أتى بالسنة ، ولم يُخالِف الإمام في مقاصد الإمامة التي جُعِل لأجلها .
4= ما الضابط في مُتابعة الإمام ؟
الضابط أن ينقطع صوت الإمام بالتكبير أو التسميع ، فيبدأ المأموم بالمتابعة .
قال البراء بن عازب رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ مِنّا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا ، ثم نقع سجودا بعده . رواه البخاري ومسلم ، وسيأتي .
ولا يؤمر المأموم بالنظر إلى إمامه ، لأن من كان بعيداً لن يرى الإمام إلا بالتفات ، كما أن الْمُصلِّي مأمور بالنظر إلى موضع سجوده في القيام ، وإلى أصبعه في التشهّد .
وقال شريك القاضي : يَنظر في القيام إلى موضع السجود ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى حجره . ذكره القرطبي في التفسير .
والسنة في التشهد أن ينظر إلى أصبعه السبابة ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام في القبلة ، ورَمى ببصره إليها . رواه النسائي .
5= التعقيب بالفاء في قوله : " فَكَبِّرُوا " ، وفي قوله : " فَارْكَعُوا " ، وفي قوله : " فَقُولُوا " ، وفي قوله : " فَاسْجُدُوا " يدل على أن المشروع في حق المأموم هو المتابعة لا الموافقة ولا المسارعة ولا التأخّر عن الإمام .
والفاء تدل في أصل وضعها في العطف على التعقيب .
فتقتضي أن تكون أفعال المأموم عقب أفعال الإمام القولية والفعلية ، كما يقول ابن الملقن .
6= ورد في رواية : " وإذا قرأ فأنصتوا " وهي عند مُسلم ، وقد أوردها بعد الروايات مُصحِّحاً لها .
وهي تدلّ على أن المأموم يُنصت في حال قراءة إمامه قراءة جهرية .
والمسألة خلافية ، بل الخلاف فيها طويل .
7= معنى قول : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ .
أي استجاب الله ، واللام هنا لتضمين معنى الاستجابة .
ويأتي السّماع بمعنى الاستجابة ، ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا يَنْفَع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يُسمَع .
وفي رواية لمسلم : ومن دعوة لا يُستجاب لها .
فَدَلّ على أن المعنى هنا الاستجابة ، وليس فراراً من إثبات السّمع لله تعالى ، فإنه ثابت بنصوص أخرى .
8= قوله : " وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ , فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " .
فيها مسائل :
1 - الصحيح أن قول : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " خاص بالإمام والمنفرد دون المأموم .
2 - صيغ الْحَمْد بعد قول سمع الله لمن حمده :
- رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ – كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا .
- ربنا لك الْحَمد ، من غير واو . كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد .
- اللهم ربنا ولك الحمد . كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال : سمع الله لمن حمده قال : اللهم ربنا ولك الحمد . رواه البخاري .
- اللهم ربنا لك الحمد . كما في حديث أبي هريرة مرفوعا : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد . رواه البخاري ومسلم .
فهذه أربع صيغ ثابتة في الصحيح .
إلا أنه لا يُجمع بينها بل يُنوّع بينها ، فتُقال هذه مرة وهذه مرّة .
9= قوله : " فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " يدل على وُجوب قول : ربنا ولك الحمد ، أو ما يقوم مقامها من الصيغ المتقدّمة .
10= هل يقول الإمام هذه الصيغ ؟
نعم ، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال : سمع الله لمن حمده قال : اللهم ربنا ولك الحمد . رواه البخاري .
فهذه الصِّيَغ يقولها الإمام والمأموم والمنفرد .
11= هل يُزاد على هذه الصِّيَغ ؟
نعم .
فعن رفاعة بن رافع قال كنا يوما نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده . فقال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه . فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من المتكلم آنفا ؟ قال رجل : أنا يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ، أيهم يكتبها أول . رواه البخاري
و عن ابن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد . رواه مسلم .
وفي رواية له : كان يقول : اللهم لك الحمد ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد . اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ .
وفي حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : ربنا لك الحمد ، ملء السماوات والأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحقّ ما قَالَ العبد ، وكُلّنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا مُعطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد . رواه مسلم .
فهذه الأذكار مما يُقال بعد قول : ربنا ولك الحمد ، أو ربنا لك الحمد ، وغيرها من الصيغ المتقدِّمة .
وهي من خلاف التنوّع .
12= فضل متابعة الإمام ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ،فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه . رواه البخاري ومسلم .
13= قول بعض الناس بعد الرّفع من الرّكوع : اللهم لك الحمد والشّكر .
قال شيخنا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : لا شكّ أن التقيّد بالأذكار الواردة هو الأفضل ، فإذا رفع الإنسان رأسه من الركوع فليقل : ربنا ولك الحمد ، ولا يزد " والشّكر " لعدم ورودها .
ثم ذَكَر رحمه الله الصِّفات الأربع ثم قال :
وأما " الشّكر " فليست واردة فالأَوْلى تركها .
14= قول عائشة : " وَهُوَ شَاكٍ " شاكٍ من الشكوى ، أي وهو يشتكي وجع أو مرض ، وسيأتي سبب هذه الشكوى .
15= قوله : " وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ "
سبب ورود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصُرِع عنه فجُحِش شِقُّه الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد . قال أنس : فصلينا وراءه قعوداً ، فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى قائما فصلوا قياما ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون . رواه البخاري ومسلم .
فإن قيل : ألا يُمكن أن يُصلي غير الإمام إذا اشتكى ؟
فالجواب : بلى ، وفعله عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر ، ثم إنه يدل على مكانة الإمام خاصة إذا كان هو الإمام الراتب .
16= هل هذا الحديث منسوخ ؟
من شروط النسخ معرفة المتقدّم من المتأخّر ، وتعذّر الجمع ، وهو ما يظهر في هذه الأحاديث ، لأن الْمُصلِّي مأمور بالصلاة قائما ما استطاع ، كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، وهو عند البخاري .
وهذا الحديث هو مأمور بالصلاة قاعدا إذا صلى إمامه قاعدا من عُذر .
والذي يظهر أن الحديث منسوخ ، أي الأمر بالصلاة قُعودا .
ولذلك فإن الإمام البخاري لما روى حديث أنس أعقبه بقول شيخه الحميدي ، فقال :
قال أبو عبد الله [ يعني البخاري نفسه ] قال الحميدي : قوله : " إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " هو في مرضه القديم ، ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وآخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالسا وصلى أبو بكر بصلاته قائما والناس من خلفه قيام .
قالت عائشة رضي الله عنها وهو تُحدِّث عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه ، وأنه قال : مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس . قالت : فخرج أبو بكر فصلى ، فَوَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفّـة فخرج يُهادي بين رجلين كأني أنظر رجليه تَخُطَّان من الوجع ، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ، ثم أُتِيَ به حتى جلس إلى جنبه .
وفي رواية للبخاري : وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير.
وفي رواية لمسلم : فلما دخل المسجد سَمِع أبو بكر حِسّه ذهب يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُم مكانك ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر . قالت : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر .
وقول آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى بهم نافلة ، واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، فصلوا بصلاته قياما ، فأشار إليهم أن اجلسوا فجلسوا ، فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا .
وفي حديث عائشة الذي أورده المصنِّف أنه عليه الصلاة والسلام صلّى في بيته ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يُصلي الفريضة في بيته .
والقول الأول – وهو القول بالنسخ – أرجح .
ولذا قال الحافظ ابن حجر بعد ذِكر الروايات : ويُستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعوداً إذا صلى إمامهم قاعداً . اهـ .
والله تعالى أعلم .