الحديث الـ 234
في فِدية الأذىبابُ الفِدْيَةِ
ح 234
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ : جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . فَسَأَلَتْهُ عَنِ الْفِدْيَةِ ؟ فَقَالَ : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً . حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي . فَقَالَ : مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَتَجِدُ شَاةً ؟ فَقُلْتُ : لا . فَقَالَ : صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ , لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ , أَوْ يُهْدِيَ شَاةً , أَوْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ .
في الحديث مسائل :
1= قوله : " بابُ الفِدْيَةِ " المقصود بها فِدية خاصة ، وهي ما يُسميها العلماء " فِدية أذى " .
والأصل فيها قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) .
2= ما جاء في هذه الفِدية على التخيير ، لِما جاء في الآية السابقة .
وفي رواية للبخاري : قال : لعلك آذاك هوامك ؟ قال : نعم يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احلق رأسك ، وصُم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك بشاة .
فـ ( أو ) تُفيد التخيير .
3= كان ذلك عام الحديبية .
ففي رواية للبخاري ومسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وأنه يسقط على وجهه القمل ، فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال : نعم . فأمَرَه أن يَحْلِق وهو بالحديبية ، ولم يتبين لهم أنهم يُحِلّون بها ، وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطعم فَرَقَا بين ستة ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام .
وما فائدة معرفة ذلك ؟
فائدة معرفة كون ذك عام الحديبية ما يترتّب عليه من كون ذلك في عُمرة ، ثم كون كعب رضي الله عنه خارج حدود الحرم ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية ولم يأمره أن تكون في الحرم .
4= وُجوب الفدية في فِعل محظور ، سواء كان ذلك في الحج أو في العمرة .
5= قوله : " حُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي " .
في رواية لمسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم مَـرّ بِهِ وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة ، وهو محرم ، وهو يُوقِد تحت قِدْر ، والقمل يتهافتْ على وجهه ، فقال : أيؤذيك هوامك هذه ؟ قال : نعم .. الحديث .
قال العيني في عمدة القارئ : وفي لفظ له : " حُمِلْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي لفظ : " وَقَفَ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية " وفي لفظ : " إنه صلى الله عليه وسلم رآه وأنه يَسْقُط على وجهه " وفي لفظ : " مَـرّ بِي النبي صلى الله عليه وسلم " وفي لفظ لمسلم قال : " فأتيته " قال : " أدْنُه " وفي لفظ له : مَـرّ به النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم " فإن قلت : ما الجمع بين اختلاف هذه الروايات والقصة واحدة ؟ قلت : لا تعارض في شيء من ذلك ؛ أما لفظ " لعلك آذاك " فَسَاكِت عن قيد ، وأما بقية الألفاظ فوجهها أنه مَرَّ به وهو محرم في أول الأمر ، وسأله عن ذلك ، ثم حُمِل إليه ثانيا بإرساله إليه ، وأما إتيانه فَبَعْد الإرسال ، وأما رُؤيته إياه فلا بُدّ منها في الكل . اهـ .
6= العِبرة بِعموم اللفظ لا بِخصوص السبب .
قال رضي الله عنه : نَزَلَتْ فِي خَاصَّةً . وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً .
7= هذه الفدية في كل محظور من محظورات الإحرام عدا الجماع ، فإن كفارته مُغلّظة .
فإن فَعَل شيئا من المحظورات لِحاجة سَقَط الإثم ولَزِمَتْه الفِدية .
وإن فَعله لغير حاجة أثِمَ ولَزِمَتْه الفِدية .
فلو تَطيّب الْمُحرِم ، أو حَلَق شعر رأسه ، أو لبس الثياب ، أو غطَى رأسه ، فإنه تلزمه الكفارة ، وهو مُخيَّر فيها بين الثلاث الواردة في حديث الباب .
8= لو فَعَل شيئا من محظورات الإحرام ناسياً . فهل تلزمه فِدية ؟
المسألة مَحلّ خِلاف .
قال القاضي عياض : ومُعظَم العلماء على وُجوب الدم على الناسي .
وفَرّق العلماء بين محظورات الإحرام في النسيان .
قال ابن قدامة : المشهور في المذاهب أن المتطيّب أو اللابِس ناسيا أو جاهلا لا فِدية عليه ، وهو مذهب عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر .
وقال أحمد : قال سفيان : ثلاثة في الجهل والنسيان سواء : إذا أتى أهله ، وإذا أصاب صيدا ، وإذا حلق رأسه
قال أحمد : وإذا جامع أهله بَطَل حَجّه . لأنه شيء لا يقدر على رَدِّه . والصيد إذا قَتَلَه فقد ذهب لا يقدر على رده ، والشَّعر إذا حلقه فقد ذهب .
فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء ، وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يَقْدِر على رَدّه ، مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه
وليس عليه شيء
أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء وعنه رواية أخرى أن عليه الفدية في كل حال وهو مذهب مالك والليث والثوري وأبي حنيفة ؛ لأنه هَتَك حُرْمَة الإحرام . فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأطفار .
ولنا عموم قوله عليه السلام : عُفِي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهوا عليه . وروى يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جُـبّة ، وعليه أثر خَلُوق - أو قال أثر صُفرة - فقال : يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك هذه الْجُـبّة ، واغسل عنك أثر هذا الخلوق - أو قال أثر الصفرة - واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك . متفق عليه
وفي لفظ : قال : يا رسول الله أحرمت بالعمرة وعليّ هذه الجبة . فلم يأمره بالفدية مع مسألته عما يَصْنَع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز إجماعا .
دَلّ على أنه عُذر لجهله ، والجاهل والناسي واحد .
ولأن الحج عبادة يجب بإفسادها الكفارة ، فكان من محظوراته أنه ما يُفَرّق بين عمده وسهوه ، كالصوم ، فأما الحلق وقتل الصيد فهو إتلاف لا يمكن رَدّ تَلافِيه بإزالته .
إذا ثبت هذا فإن الناسي مَتَى ذَكَر فعليه غسل الطيب وخلع اللباس في الحال ، فإن أخَّرَ ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية . اهـ .
وقال النووي : إذا فَعَل الْمُحْرِم محظورا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا ، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والْحَلْق والقَلْم ، فالمذهب وجوب الفدية ، وفيه خلاف ضعيف سبق بيانه ، وإن كان استمتاعا مَحْضاً كالطيب واللباس ودَهن الرأس واللحية والقُبلة واللمس وسائر المباشَرَات بالشهوة - ما عدا الجماع - فلا فدية ، وإن كان جماعا فلا فدية في الأصح . والله أعلم .
وقال : قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا لَبِس أو تطيّب ناسيا لإحرامه أو جاهلا تحريمه فلا فدية ، وبه قال عطاء والثوري وإسحاق وداود .
وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد - في أصح الروايتين عنه - عليه الفدية ، وقَاسُوه على قتل الصيد . ودليلنا ما ذَكَره المصنف . والفرق أن قتل الصيد إتلاف وأما إذا وطىء ناسيا أو جاهلا ، فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يفسد نسكه ، ولا كفارة . وقال مالك وأبو حنيفة : يفسد ويلزمه القضاء والكفارة . اهـ .
9= لو رَكِب حاج أو مُعتَمِر طائرة ولم يَكن معه ملابس للإحرام ، فإنه إذا حاذى الميقات يُلبِّي ، ويتخفّف من الملابس ما استطاع ، فيُزيل غطاء الرأس ، والجوارب – إذا كان رجلا – والثوب ونحوه من غير كشف للعورة ، فإنه إذا فَعَل ذلك كان مُخيَّراً بين ثلاث ، وهي كفارة الأذى الواردة في هذا الحديث .
أما إذا أخَّـر الإحرام إلى المطار – وكان جاوز الميقات – فإنه يلْزَمه دم ( ذبح شاة ) توزّع على فقراء الحرم
10= قوله : " فَرَقاً بَيْنَ سِتَّةٍ " أي بين سِتّة مساكين .
والْفَرَق : ثلاثة آصع .
يعني يُفرِّق ثلاثة أصواع بين ستة مساكين ، فيكون لِكلّ مسكين نِصف صاع .
11= اختُلِف في الإطعام والذبح . هل يكون في الْحَرَم أو يجوز في غيره ؟
وهل يُذبَح في الْحِلّ ويُوزّع في الْحَرَم ؟
ليس في المسألة نَصّ ، إلا ما كان في جزاء الصيد ، فإنه منصوص عليه في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) .
قال القرطبي في التفسير : اخْتَلَف العلماء في موضع الفدية المذكورة ؛ فقال عطاء : ما كان من دم فَبِمَكّة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي . وعن الحسن أن الدم بمكة .
وقال طاووس والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم . وقد قال الله سبحانه (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) رِفقاً لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام. والله أعلم .
وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء . وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد . والذبح هنا عند مالك نُسُك وليس بهدي لِنَصّ القرآن والسنة ، والنُّسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة، ومن حُجّته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمَرَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فَحُلِق ، ثم نَسَك عنه بالسّقيا ، فنحر عنه بعيرا . قال مالك : قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خَرَج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة .
ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة .
وجائز عند مالك في الهدي إذا نُحِرَ في الحرم أن يُعْطَاه غير أهل الحرم ، لأن الـبُغية فيه إطعام مساكين المسلمين .
قال مالك : ولما جاز الصوم أن يُؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم .
ثم أن قوله تعالى : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) الآية . أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) لم يَقُل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه .
وقال : (أَوْ نُسُكٍ) فَسَمّى ما يُذبح نُسُكاً ، وقد سَمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، ولم يُسَمِّه هَدياً، فلا يلزمنا أن نَرُدّه قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن عليّ .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَرَ كَعْباً بالفدية ما كان في الحرم ، فَصَحّ أن ذلك كله يكون خارج الحرم . وقد رُوي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد . اهـ .
وبِنحو هذا قال ابن عبد البر في الاستذكار .
وهذه أدلة قوية على أن الإطعام أو الدم إذا كان دم جُبران ، فإنه لا يَجب أن يكون بِمكّة .
إذ الوجوب مُتوقّف على الدليل ، ولا دليل خاص في المسألة .
والأدلة والتعليلات التي ذكروها قوية جدا .
وإلزام الناس بأمرٍ تَعبّدي ليس فيه دليل صحيح صريح فيه مَشَقّة على الناس ، وإيجاب ما ليس بِواجِب .
12= نَصّ العلماء على أن كفارة الأذى لا بُدّ فيها من تمليك المساكين .
قال القرطبي في التفسير : ولا يجزى أن يُغَدِّي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يُعْطِي كل مسكين مُدَّين بِمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم . وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن . اهـ .
13= الشاة والإطعام في الفِدية لا يجوز أن يأكل منها صاحبها ، بِخلاف الهدي والأضاحي .
14= فائدة :
قوله صلى الله عليه وسلم : " مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى – أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى " قال ابن الملقِّن : " أُرى " الأولى والثالثة ، بِضمّ الهمزة ، أي أظُنّ . والثانية والرابعة بِفتحها ، أي أُشاهِد ببصري ، فهو من رؤية العين .
والله تعالى أعلم .