بعض الأحكام المتعلقة بقيام رمضان
إِنَّ الْحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أَنَّ لِلطاعَةِ لَذَّةً، لا يَذُوقُها إلا مَنْ جاهَدَ نَفْسَه فِي اللهِ، وتَعَلَّقَ قَلْبُهَ بِاللهِ والدارِ الآخِرة، وكان هَمُّهُ فِي هذِه الدُّنيا التَزَوُّدَ بِزادِ التَّقْوَى، والاسْتِكْثارَ مِن الحَسَناتِ. وبَذْلَ أسبابِ قَبُولِ العَمَل، فإن مَن كان كذلِك لابُدَّ وأَنْ يَجِدَ لَذَّةَ العِبادَةِ في قَلْبِه. ومِن هذِه العِباداتِ, صَلاةُ القِيامِ في رَمَضان: فإنَّ لِهذِهِ الصَّلاةِ مَزِيَّةً وفَضْلاً وأَجْراً عَظِيماً في شهْرِ رمضان. ولِأهَمِّيَّتِها في هذا الشهرِ فإنَّها تُشْرَعُ جَماعَةً، بِخِلافِ بَقِيَّةِ الشُّهُور.
ولِهَذِهِ الصَّلاةِ العَظِيمَةِ أَحْكامٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ مَعْرِفَتُها:
أَوَّلُها: عَدَدُ رَكَعاتِها، فإنَّه لَمْ يَثْبُت عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْدِيدٌ لِعَدَدِها، ولَكِن ثَبَتَ عَن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها قالت: ( مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً )، وهذا مِن فِعْلِهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْه، ولكِنَّه لَمْ يَأْمُرْ بَعَدَدٍ مُعَيَّن، وإِنَّما أَطْلَقَ القَوْلَ فقال: ( صَلاةُ الليلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذا خَشِيَ أَحَدُكُم الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً واحِدَةً تُوتِرُ لَه ما قَدْ صَلَّى )، وأَمَّا عَدَمُ زِيادَتِهِ عَلَى العَدَدِ الذي ذَكَرَتْهُ عائِشةُ رضي اللهُ عَنْها، فَلِأَنَّه كان إذا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَه، وكانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَيْهِ ما دَاوَمَ عَلَيْهِ صاحِبُه. ولِذلِكِ لَمْ يُنْقَلْ عَن واحِدٍ مِن السلَفِ تَحْدِيدُ رَكعاتِ اللَّيلِ بِعَدَدٍ مَعَيَّن.
ومِن أحكامِ صَلاةِ اللَّيلِ: أَنَّها مَثْنَى مَثْنَى، لِمَا تَقَدَّمَ في الحَدِيث، فلا يُشرَعُ سَرْدُ الرَّكعاتِ، ولا يَنْبَغِي لِلإِمامِ فِي صَلاةِ القِيامِ جَماعَةً أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعاتٍ بِسلامٍ واحِد، إلا الرَّكَعاتِ الثلاثِ الأخيرةِ، فإنَّها تُجْمَعُ بِسَلامٍ واحِدِ وتَشَهُّدٍ واحِد.
ومِن المَسائِلِ أَيْضاً: أَنَّه إذا قامَ الإمامُ إِلى الركعةِ الثالِثةِ في صلاةِ اللَّيْل، فإن الواجِبَ إذا ذَكَرَ أو ذُكِّرَ، أَنْ يَجْلِسَ، ولا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ، فَإِنَّ بَعْضَ الأَئِمَّةِ إذا قامَ إلى الركعةِ الثالِثَةِ ناسِياً, ثُمَّ ذَكَرَ أو ذُكِّرَ، واصَلَ صَلاتَهُ وجَعَلَها أَرْبَعاً. والمَشْرُوعُ في هذِه الحالةِ أَنْ يَجْلِسَ، حَتَّى لَوْ كانَ شَرَعَ في الفاتِحَةِ, فإنَّهُ يَجْلِسُ ويَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْو.
ومِنْ المَسائِلِ أَيْضاً: أَنَّه إذا دَخَلَ الرَّجُلُ المَسْجِدَ وَوَجَدَ الجَماعَةَ قَدْ صَلَّوا العِشاءَ، فإنَّ المَشْرُوعَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُبادِرَ بِصَلاةِ العِشاءِ قَبْلَ أَنْ يَبْدَؤُوا بِصَلاةِ التراوِيح. وأَمَّا إذا وَجَدَهُم يُصَلُّون التراويحَ فَإِنَّه يَدْخُلُ مَعَ الإمامِ بِنِيَّةِ العِشاءِ، ثُمَّ إذا سَلَّمَ الإمامُ قامَ وأَتَمَّ صلاتَه.
ومِن المَسائِلِ أَيْضاً: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال ( لا وِتْرانِ فِي لَيْلَة ). فَلا يُشْرَعُ لِشَخْصٍ أَنْ يُوتِرَ مَعَ الإِمامِ، ثُمَّ يُوتِرُ آخِرَ اللَّيْل. أَوْ يُوتِرُ مَعَ إِمامٍ، ثُمَّ يَذْهَبُ إلى إمامٍ في مَسْجِدٍ آخَرَ فَيُوتِرُ مَعَهُ أَيْضاً. لكِن لَو أَنَّ شَخْصاً صلَّى مَعَ الجماعةِ صلاةَ التراوِيحِ وطَمِعَ أَنْ يُصَلِّيَ آخِرَ اللَّيلِ فإنَّ له إذا سَلَّمَ الإمامُ مِن ركعةِ الوِتْرِ أَنْ يَقُومَ ويَأتِيَ بِرَكْعَةٍ لِيَشْفَعَ صلاتَه. والأَفْضَلُ لَه أَنْ يَكْتَفِيَ بِوِتْرِه مَعَ الإمامِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ قامَ مَعَ الإمامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ له قِيامُ لَيْلَة ). ثُمَّ إِنْ تَمَكَّنَ مِن الاستِيقاظِ آخِرَ اللَّيلِ فإنَّه يَشْتَغِلُ بِقِراءَةِ القرآنِ والذِّكْرِ والدعاءِ والاسْتِغفار.
ومِن المَسائِلِ أيْضاً: أَنَّ كُلَّ تَسْلِيمَةٍ مِن صَلاةِ اللَّيلِ, صلاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَن التي قَبْلَها، فَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ تَسْلِيمَةٍ دُعاءُ اسْتِفْتاح، لَكِن لَوْ اكْتَفَى باستِفْتاحِ التسلِيمةِ الأُولَى فإنه لا حَرَجَ عَلَيه.
ومِن المَسائِلِ أيضاً: أَنَّه إذا جَمَعَ الإمامُ بَيْن المَغْرِبِ والعِشاءِ في رَمَضانَ بِسَبَبِ المَطَرِ أو أَيِّ عُذْرٍ يُبِيحُ الجَمْعَ، فَإِنَّ الجماعَةَ يَفْعَلُون ما هُوَ أَيْسَرُ لَهَم: إِنْ شاؤُوا صَلَّوا التَراوِيحَ بَعْدَ الجَمْعِ ولَوْ لَم يَدْخُلْ وَقْتُ العشاءِ، وإنْ شاؤُوا أَخَّرُوا التراويحَ إلى وَقْتِ اجْتِماعِهِم المُعتاد. وإذا اشْتَدَّ الحَرَجُ فاحتاجُوا إلى الصلاةِ في الرّحال, فإنَّهم يصَلُّونَ الفريضَةَ في بُيُوتِهِم، وكذلك القيامَ. ويَجُوزُ لِلإمامِ في هذِه الحالَةِ أن يُقِيمَ الصلاةَ في المَسْجِدِ لِمَن يَرْغَبُ صلاةَ التراوِيِحِ جَماعَةً. والأمْرُ في هذا واسِعٌ ولِلَّهِ الحَمْد.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.