ثروت Admin
عدد المساهمات : 1166 تاريخ التسجيل : 18/06/2014 الموقع : خى على الفلاح
| موضوع: شرح حديث ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللَّه عنهمَا "يَا غُلامُ إِنِّي أُعلِّمكَ كَلِمَاتٍ" 2 الأحد أغسطس 27, 2017 7:31 pm | |
| شرح حديث ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهمَا- "يَا غُلامُ إِنِّي أُعلِّمُكَ كَلِمَاتٍ" 2
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد نبهنا مراراً أيها الإخوان على هذه المعازف التي لم تسلم منها المساجد، وقلنا: إن ذلك يحرم على كل حال، والله -عز وجل- يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]، قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره إنه الغناء.
وجاء عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أيضاً أن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل([1])، وجاء في صحيح البخاري: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر والمعازف))([2]).
فهذا يحرم في خارج الصلاة، وفي خارج المسجد، فإذا كان في المسجد فهو أعظم وأشد؛ لأن الإنسان إنما يناجي ربه، ثم كل من أسمَعَه فله نصيب من الوزر، والإنسان ينوء بحمله، وبذنوبه، فيأتي ويتحمل ذنوب الآخرين.
فهذه قضية يحتاج الإنسان أنه ينظر في عمله، وينظر فيما يناجي به ربه، وفي حال وقوفه بين يدي الله -عز وجل- لا يكون في حال تبعده منه، المقصود بالصلاة هي أن يرتفع العبد بها عند الله -عز وجل-، ويقترب إليه، ويناجيه، فكيف يواجهه بمثل هذا؟
لو أن الإنسان واقف عند ملك من الملوك، ثم اشتغل عنده جهاز أو اشتغل عنده شيء بأمر يكرهه هذا الملك، كيف يكون موقف هذا الإنسان؟ وماذا سيقول له الناس الذين حضروا معه؟ فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يتبصر بها.
ولا زلنا نتحدث عن مراقبة الله -تبارك وتعالى-، وكان الكلام على حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك...)) وقد تحدثنا عن هذا القدر من هذا الحديث.
ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله...)) إذا سألت: يدخل في هذا الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، فإن التوجه بذلك إلى أحد من المخلوقين حينما يسأل الإنسان مخلوقاً حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يكون من قبيل الشرك الأكبر المخرج من الملة، أما الميت فإنه لا يُسأل قليلاً ولا كثيراً؛ لأنه في شغل ولا يستطيع أن يقدم لك قليلاً ولا كثيراً ولا شربة ماء، لا يستطيع أن يقدم لك شيئاً مما يقدمه المخلوق الحي، بل ولا الطفل، فلا يُسأل بإطلاق، وأما الحي فإن سؤاله فيما لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- يكون من قبيل الشرك الأكبر، وذلك بأن الأمر المسئول هو مما يختص بالله -تبارك وتعالى-، كإنزال المطر، أو دخول الجنة والنجاة من النار، فالذين يتقربون إلى الموتى والمقبورين ويقدمون لهم النذور، ويدعونهم من دون الله -عز وجل-، هؤلاء مشركون بالله -عز وجل- الشرك الأكبر.
وكذلك إذا قام ما يمنع من ذلك فصار في هذه الحال لا يُتوجه بالسؤال إلا لله -عز وجل-، إنسان ركب البحر، وتلاطمت أمواجه لو أنه رأى سفينة فناداهم وطلب منهم المساعدة، هذا يجوز، لكن لو أنه سأل إنساناً ليس بحضرته أصلاً، قال: يا عبد القادر الجيلاني، يا بدوي أغثنا -لو فرضنا أنهما حيان ما ماتا- فهذا يعتبر من الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز.
وأما سؤال المخلوق فيما يقدر عليه فإن هذا جائز، ولكنه على خلاف الكمال في مراتب العبودية العالية، فالإنسان له أن يسأل غيره أن يناوله هذا الكتاب، أو أن يطعمه، فيما يقدر عليه المخلوق، لكن هذا ليس من الكمال، وقد بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه حينما قال لهم: ((ألا تبايعوني؟))، قالوا: يارسول الله، قد بايعناك مرة فعلى ماذا نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة))، ثم أتبع ذلك كلمة خفيفة ((على أن لا تسألوا الناس شيئا))([3])، يقول بعض من حضر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: فرأيت بعض هؤلاء وإن السوط ليسقط من أحدهم، يعني وهو على البعير، أو على الدابة، فما يقول لصاحبه: ناولنيه([4]).
وذلك أن الإنسان إذا سأل الناس ثقل عليهم، فالأحسن للإنسان أن يقوم بحوائجه بنفسه، ولا يفتقر لأحد من المخلوقين، فإن سؤالهم فيه نوع افتقار.
وحتى ولدك أحياناً لربما يثقل عليه القيام بشئونك، لكن هذا لا يفهم على غير وجهه، فليس المراد أن الإنسان لا يربي ولده، ولا يأمره ولا ينهاه، أو لا يأمر خادمه، أو لا يقوم بما يجب عليه أن يقوم به في المكان الذي صار عليه.
عنده موظفون، وهو مدير عليهم، أو نحو ذلك، عنده عماله أو نحو هذا، فلابد أنه يوجههم، يأمرهم، ينهاهم فيما هم قد أقيموا من أجله في عملهم، فهذا لا ينافيه.
لكن المقصود في حظوظ النفس والأشياء الشخصية لا يكل أمره إلى الناس، وينتظر من الناس أن يقوموا بحوائجه، فيكون كَلَّا عليهم، ليس هناك أفضل من الغنى عن الخلق، وقد ذكرت لكم في بعض المناسبات كلمة شيخ الإسلام: استغنِ عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فلماذا يضع الإنسان الغل في عنقه، والقيد في يده ورجله، ويجعل الناس يحسنون إليه، ويأسرونه بهذا الإحسان، ويكون مُسترَقاً لهم؟، هذا طبعاً إذا كان من أصحاب الشيم، والنفوس التي تقدر المعروف وأهل المعروف.
((إذا سألت فاسأل الله)) اجعل رغبتك وحاجتك متوجهة إلى من بيده نواصي الخلق، وبيده الغنى المطلق، والملك الكامل.
((وإذا استعنت فاستعن بالله)) يعني: طلبت العون، يجوز للمخلوق أن يستعين بمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، لكن الاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- شرك أكبر، والناس يكمل بعضهم بعضاً فيما يقدرون عليه، لكن إن استطعت أن تكون محسناً فاعلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى، فهذا هو الأكمل، أن يحتاج الناس إليك، ويأتون إليك، ولا تأتي إليهم أنت بحاجة تُسترَقُّ بها، ولابد من نوع إذلال.
بل إن الإمام أحمد -رحمه الله- كره أن يطلب لغيره، يعني: أن يأتي إلى الناس ويكلمهم ليس كلاماً عاماً، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تكلم ودعا إلى الصدقة، فلابد من حث الناس، لكن الكلام معهم شخصياً، كأن تقول: أنت يا أبا فلان نريدك أن تتبرع، فهذا الفعل الأكمل تركه، لاسيما لبعض الناس، والناس يتفاوتون، منهم من يكون هذا حظه أصلاً، وهو يطلب أشياء أكثر من هذا، يطلب لنفسه ويطلب لغيره، فما يقال له: لا تطلب للآخرين، لمنافع لفقراء، لكن من الناس -خاصة طالب العلم- ما يليق به أن يُذهب ماء وجهه من أجل أنه يعطي فلانا، فهذا لا يليق به، لكن ممكن أن الإنسان يتكلم بكلام عام، من أراد فيعرف الطريق.
فهذا لا شك أنه مَذهبة لماء الوجه، وسئل الإمام أحمد –رحمه الله- هل يطلب لغيره؟ قال: لا يطلب لغيره، مع أنه لا يحرم.
أما الطلب للنفس فلا يحل إلا لمن ذكرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قال: ((إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حَمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش))([5]).
((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) إذا طلبت العون فاطلبه ممن يملك العون، واعلم أن الأمة.. وهذا الكلام الذي بعده أشبه ما يكون بالتعليل له مع زيادة.
يقول: هؤلاء الخلق فقراء مساكين لا تعلق رجاءك وقلبك بهم، تطلب منهم العون وتسألهم، وما أشبه ذلك، فهم فقراء، وإذا أردت أن تعرف فقرهم شاهد صور الجرائد للذين ماتوا في الطوفان، أو في السيول التي قبل أيام، سبحان الله! كأن الناس جراد، كأنهم جراد، ما تدري كيف تخلعت حتى ملابسهم في السيل، كأنهم جراد، فهؤلاء الناس فقراء مساكين، فعلق رجاءك بالله وحده لا شريك له.
يقول: ((واعلم أن الأمة...)) والمقصود بالأمة هنا جميع الخلق.
فلو اجتمع أهل السلطة، وأهل المال، وأهل القوة، وأهل الرأي كل هؤلاء ممن يملكون القرار، وممن يظن الإنسان أن مصالحه في أيديهم، كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.
قوله: ((لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء))، ولو كان يسيراً لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ما كُتب لك في اللوح المحفوظ، وكتب لك وأنت في بطن أمك سيأتيك، وإن أبى الخلق، ولو اجتمعوا جميعاً على أن يوصلوا لك شيئاً لم يكتبه الله -عز وجل- لك لا يمكن أن يصل، سيتعثر وينقطع، ولن يصل إليك بحال من الأحوال، فلا داعي للمحاولة والتعب، وتبقى عزة المؤمن وتبقى نفسه كريمة لا يستذلها أحد من المخلوقين، إنما يكون ذله لربه.
قوله: ((وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))، معنى ذلك: أن الأمر قد فرغ منه وانتهى، انتهى كل ما سيصل إليك، وعليه فلا ينبغي أن يسكت الإنسان عن الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يسكت عن مديره، أو قد يكون الإنسان يعمل في مؤسسة، ويقول: أنا إن أنكرت على صاحبها فصلني من العمل.
فنقول: رزقك مكتوب، وما سيأتيك سيأتيك، فعليك القيام بأمر الله -عز وجل-، والاشتغال بتحقيق العبودية، فهذا هو عين السعادة، وهذا هو الطريق الموصل إلى مرضات الله وإلى جنته، وأما هذه الدنيا فأبشر ما كتب لك سيأتيك، وما كتب عليك سيأتيك.
وإذا عرف الإنسان هذا المعنى فإنه لا يجزع ولا ينفرط صبره، ولا تذهب نفسه حسرات ويقول: لو أني ما فعلت هذا الشيء، لو أني ما قلت هذا، ويبدأ مَن حوله يجتمعون عليه ويثرِّبون عليه.
إذا كان ما قلته حقاً فاثبت، وإذا كان ما قلته باطلاً فارجع عنه، لا تستمر على الباطل، وإذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله -عز وجل- به فإن العاقبة ستكون له إن صبر، وكانت له فيه نية، وكان على الصراط المستقيم، ولكن الإنسان صبره قليل ضعيف، فينقطع، وإذا رأى شيئاً مما لا يعجبه ولا يحب أصبحت نفسه تذهب حسرات.
الآن اشتغال الناس، وأكثر الأسئلة التي لا يكاد الإنسان هذه الأيام أن يسمع سواها عن الأسهم، وليته شيء يستحق، كما قلنا لكم مراراً: كله على ثلاثة وأربعة أسهم، الفقر يبدو أنه دخل في أعماق القلوب، كأن رزقهم على هذين السهمين، أو الثلاثة التي فيها ما فيها من الشبهة، ومن الربا، وبرنامج أصلاً ما وُضِّح ولا طُرح للآخرين بشكل، ومع ذلك التهافت عليه، والتكالب عليه، وإذا فتح وقت التداول صارت مشاغبات، ومزاحمات، ومضاربات.
أنتم رأيتم الذين يتزاحمون، هل صاروا أثرياء؟ ما يأتيهم إلا ما كتب لهم، ومن هؤلاء الناس بل كثير منهم مَن يغرقون في الديون، ومن رديء إلى أردأ، ومن سُفول إلى أسفل، فهو لا يزال يتقهقر وينحط في دركات الفقر، فهل حرصه جلب له الغِنى؟ وهل الغَنيّ إنما صار غنياً لفرط حرصه، ولزيادة اجتهاده في الجمع؟
أبداً، لكن الله -عز وجل- قد كتب له ذلك، بذل الأسباب فكتب الله -عز وجل- له هذا، وكتب للآخر أشياء أخرى، هذا كتب له قوة بدنية، وهذا كتب له أولاداً -ما شاء الله، تبارك الله-، وهذا كتب له عافية في البدن، وهذا كتب له راحة في البال، وهذا كتب له تفوقاً في دراسته.
وزع الله -عز وجل- هذه الأمور بين الناس، فالإنسان يرضى بما أعطاه الله -عز وجل-، ولا يعتقد أن المخلوقين يملكون له شيئاً من هذا.
أسأل الله -عز وجل- أن يجعل فقرنا إليه، وحاجتنا إليه، وأن يربط قلوبنا به -سبحانه وتعالى-، فنتوجه إليه بالسؤال والخوف والرجاء والمحبة والتوكل، وأن لا يكلنا إلى غيره طرفة عين، وأنه -سبحانه وتعالى- يغنينا عمن سواه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1] - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/223)، رقم: (20797).
[2] - أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5/2123)، رقم: (5268).
[3] - أخرجه ابن حبان، كتاب الزكاة، باب المسألة والأخذ وما يتعلق به من المكافأة والثناء والشكر (8/180)، رقم: (3385)، والطبراني في المعجم الكبير (18/39)، رقم: (68)
[4] - أخرجه ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة (1/588)، رقم: (1837)، وأحمد (37/67)، رقم: (22385).
[5] - أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة (2/722)، رقم: (1044).
| |
|