شرح حديث جُنْدُبِ بْنِ جُنَادةَ ومُعاذِ بْنِ جبلٍ -رضي الله عنهما- "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا نتحدث عن سؤالات جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث سأله عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الإحسان، وبيّنا ما يدخل تحت ذلك من المعاني، وأن هذا الحديث من الأحاديث الجامعة التي يرجع إليها الإسلام، أو يرجع إليها الدين من أوله إلى آخره، فكل حديث في الإسلام، أو في الإيمان، أو في الإحسان، أو في المراقبة، أو في الإخلاص لله -عز وجل- وكل آية تتصل بهذه المعاني فهي راجعة إلى هذا الحديث.
حتى إن من أهل العلم من يقول: إن هذا الحديث يصلح أن يسمى أم السنة، كما تسمى سورة الفاتحة بأم القرآن؛ لأن جميع معاني القرآن ترجع إلى الفاتحة، وهذا الحديث جميع معاني الدين ترجع إليه.
يقول: ثم انطلق فلبثت ملياً، هذا عمر -رضي الله عنه- يقول: لبثت ملياً، وفي بعض الروايات يقول: فلبث يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- ملياً، أي: قليلاً، وذلك بناء على رواية البخاري أنه لما انطلق أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يردوه فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، بمعنى أنه أخبرهم مباشرة، لكن ذلك لا يفسر به نفس اللفظ، فلفظة ملياً تعني: لبث طويلاً، فيمكن أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عمر بعد ذلك، يعني: يمكن أن يكون عمر انطلق، ثم أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، ثم ذكر الحديث الآخر في هذا الباب العظيم، وهو باب المراقبة.
فقال: عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتقِ الله حيثما كنت...))([1]).
هذا الحديث رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان من الصحابة: أبو ذر، ومعاذ بن جبل –رضي الله عنهما.
وأبو ذر هو جُندَب، ويقال: جُندُب، ويقال: أيضاً بكسر الدال، الدال فيه مثلثة، ويقال: بُرَير، وبعضهم يقول: جندب بن عبد الله، وبعضهم يقول جندب بن السكن، والمشهور أنه جندب بن جنادة -رضي الله تعالى عنه.
وأبو ذر معلوم خبر إسلامه، وذلك أنه أسلم قديماً في مكة، حينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستخفياً، وله في ذلك قصة أخرجها الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه([2]).
وهو رابع من أسلم، وقيل: هو خامس من أسلم، وهو أول من ألقى على النبي -صلى الله عليه وسلم- تحية الإسلام، ولما دخل عليه وهو مستخفٍ في مكة -عليه الصلاة والسلام- أسلم، ثم رجع إلى قومه، أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرجع إلى قومه -وذلك في البادية وقومه هم غفار- حتى يسمع بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك لحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد مدة من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يتميز بأوصاف شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعضها، من ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر))([3]).
والمراد بصدق اللهجة: أن الإنسان الذي يوصف بذلك إذا تكلم اطمأنت القلوب إلى كلامه، وأصغت إليه ومالت إليه، وعلمت أنه ليس بحديث متكلف، ولا بثقيل على الأسماع، ولا بمتصنع، يعني: يجذب القلوب، إذا تحدث معك في أي قضية مجرد ما تسمع صوته فإن القلب ينجذب إليه، أصدق الناس لهجة.
ولما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتراءى من بعيد في غزوة تبوك، لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبعد في المسير، فلما رآه أخبر أنه يمشي وحده، وأنه يموت وحده، وأنه يبعث وحده -رضي الله عنه([4]).
وهذا الذي حصل، فأبو ذر -رضي الله تعالى عنه- انتقل إلى الشام، ثم بعد ذلك رجع من الشام إلى المدينة في زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ثم بعد ذلك كثر عليه الناس، وصاروا يترددون عليه، لِمَا وقع بينه وبين معاوية -رضي الله تعالى عنه- بالشام، والناس من عادتهم أنهم لربما ينجذبون إلى من يقع بينه وبين الأمير أو الحاكم بعض الشيء.
فصار الناس يترددون عليه ويتهافتون عليه بكثرة، حتى إنه تأذى من ذلك -رضي الله عنه-، وقال: كأن الناس لم يروني قبل ذلك، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: لو تنحيت، فذهب إلى ناحية عن المدينة يقال لها الربدة، وبقي فيها حتى مات -رضي الله تعالى عنه-، فمات وحيداً كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وسيقع مصداق ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه سيحشر وحده.
وكان –رضي الله عنه- وعاء من أوعية العلم، استوعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً كثيراً، وكانت وفاته في خلافة عثمان -رضي الله عنه- في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: قبلها بسنة، وقيل: بعدها بسنة، رضي الله تعالى عنه.
وأما معاذ بن جبل فقد أسلم وهو شاب لم يجاوز الثامنة عشرة من عمره، وكان في غاية الوضاءة، والحسن والجمال والبهاء، مع توقد الذهن والذكاء والحفظ، وشهد بيعة العقبة قبل مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم شهد بدراً فما بعدها، ثم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- انتقل إلى الشام، وكان من كبار علماء الصحابة على صغر سنه، ثم بعد ذلك أصيب -رضي الله تعالى عنه- بطاعون عمواس، وكان على المنبر يقبِّل بثرة الطاعون؛ لأنه يعلم أن الطاعون شهادة.
فالمقصود أنه توفي -رضي الله تعالى عنه- بالشام، وعمره لم يجاوز الثالثة والثلاثين، وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه يحشر بين يدي العلماء برَتْوة، قيل: برمية حجر، وقيل برمية سهم، وقيل: على مد البصر، وقيل: غير ذلك، يعني: يحشر متقدماً على العلماء، وهذا يدل على منزلته في العلم على صغر سنه -رضي الله تعالى عنه.
يقول: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتق الله حيثما كنت...))، قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ وأخبره أنه يحبه، وقال له: لا تدعنّ في دبر كل صلاة..([5]).
قوله: ((اتق الله حيثما كنت))، أي: اجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وهذه هي حقيقة التقوى، أن لا يجدك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك.
فإذا كان الإنسان متقياً فإنه لا يواقع ما نهى الله -عز وجل-، ولا يقارف محارمه، ولا يوجد في أماكن الرِّيَب، الأماكن التي لا يليق أن يوجد فيها والله يسخطها، ويسخط فعل أصحابها، كما أنه لا يترك شيئاً من أمر الله -عز وجل.
ثم يتفاوت الناس في التقوى بعد ذلك على مراتب، منهم السابق بالخيرات، ومنهم المقتصد الذي يفعل الواجبات ويترك المحرمات.
وليست التقوى حيث يوجد من يعرفك من الناس، ومن تستحي منهم، فيكون تركك لما حرم الله -عز وجل- عليك من أجل حفظ مروءتك وصيانة عرضك، وشرفك، بل لابد أن يكون الحامل على ذلك هو الخوف من الله -جل جلاله.
كثير من الناس قد لا يواقع كثيراً من الأمور، إما لأنها لم تحصل له، أو لا يعرف الطريق إليها، أو لأنه يصون عرضه وشرفه، لكن لو أنه حصلت له من غير تدنيس فيما يراه الناس فإنه لا يبالي، ويقتحم في هذه الأمور ويفعل ما يحلو له، ولذلك تجد أن هؤلاء إذا حصل له ما يحصل من مسارقة النظر، أو من خائنة الأعين، أو حين يسافرون إلى بلاد لا يُعرفون فيها فتجد الواحد منهم لربما يقارف أموراً لا تليق، ويلبس لباساً لا يليق، ويعلق تعاليق لا تليق، ويلبس الصليب، ولربما لبس أشياء مما يفعله عبدة الشيطان، وقد رأيت أشياء من هذا كثيرة جداً، شاب بائس يلبس قلادة عليها شعار عبدة الشيطان، وآخر يلبس قلادة عليها صليب صريح واضح لا شبهة فيه.
هؤلاء لو اتقوا الله -عز وجل- حيثما كانوا لما فعلوا هذه الأفعال المشينة، لكن حينما ظنوا أنه لا يعرفهم أحد لم يبالوا بهذه الأمور التي يقارفونها، والله -عز وجل- معهم يراهم ويراقبهم، ومطَّلع على أحوالهم حيث كانوا.
وإذا اتقى العبد ربه -عز وجل- حيثما كان صار على الجادة، ولا يحمله عجزه وخنوعه وضعفه أن يترخص في بعض الأمور التي يترخص فيها كثير من الناس، فالمرأة تتحجب هنا، وإذا جاءوا يسافرون إلى الخارج بدءوا يسألون عن الكاب -وهذا جيد الذي يسأل عن الكاب- وتضع العباءة على الكتف، وتطوي الحجاب على رأسها، وتظهر الوجه، باعتبار أن الوجه فيه خلاف، أو سمعت أن فيه خلافاً، ولم يأتِ ذكر الخلاف ولبس الكاب أو العباءة على الكتف إلا يوم السفر إلى الخارج، وهذا يدل على أنها لا تعتز بدينها، وأنها ضعيفة مهزومة، لا يصلح مثلها أن يسافر إلى تلك البلاد.
((اتقِ الله حيثما كنت))، هذه كلمة قصيرة مختصرة، لكنها جامعة، فإذا جلستَ أمام التلفاز، وأمام القنوات اتق الله، تذكر هذه الكلمة، إذا جلست أمام الانترنت تصابح الصبح تذكر هذه الكلمة، إذا جاءك ما يأتي في هذا الجهاز الجوال مما ابتلي به الناس من ألوان المنكرات التي ترد عن طريق من التصاوير المنكرة تذكر هذه الكلمة، والإنسان مهما حاول أن يتقي الله -عز وجل- فإنه لابد أن يقع منه تقصير وزلل؛ لأنه ضعيف وعرضة لشيء من الغفلة، وقد ركبت فيه الغرائز والشهوات، فلابد من مداواة واستدراك لهذا التقصير الذي يحصل.
قال: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها))، كما قال الله -عز وجل- في ذلك الرجل الذي قارف ما لا يليق مما لا يوجب الحد، فأنزل الله -عز وجل-: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114-115]([6]).
فهذا ينبغي أن يكون ديدناً للإنسان إذا وقع منه التقصير، ولذلك كان بعض الصحابة كابن عمر إذا فاته ورده من الليل صام ذلك اليوم الذي بعده، وكان بعضهم إذا اغتاب إنساناً تصدق بشيء من المال، أو صام اليوم الذي يليه، أو نحو ذلك.
((أتبع السيئة الحسنة))، كما قال الله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل))([7]). ولو أن الإنسان آمن بهذه الأشياء حقيقة واستيقنها لصلحت أحواله كلها.
قال: ((وخالق الناس بخلق حسن)) هذه عبارة جامعة، الأخلاق تجمع أشياء كثيرة جداً، كيف يخالق الإنسان الناس بخلق حسن؟
يدخل فيه ما قاله الترمذي وغيره أنه طلاقة الوجه، وكف الأذى، وإيصال البر إلى الناس، ويمكن أن يقال أيضاً ما قاله بعض أهل العلم: أن تجعل نفسك مكان غيرك، فلا ترتضى للناس إلا ما ترتضيه لنفسك.
فضع نفسك مكان هؤلاء إذا أردت أن تتكلم، إذا أردت أن تقع في عرض أحد، إذا أردت أن تسيء إليه بأي لون من الإساءة، ضع نفسك مكانه، ما الذي ترتضيه لنفسك؟ ما الذي تحبه لنفسك من المعاملة؟ عامل الآخرين بمثله.
ولو أن الإنسان وضع نفسه هذا الموضع لحسنت أخلاقه، وتغيرت معاملته للناس، والإنسان يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أقرب الناس إليه منزلة يوم القيامة هم أحسنهم أخلاقاً([8])، ولم يقل: الصوام القوام.
فحسن الخلق أعظم من الصيام والقيام، وهي قضية لا تكلف الإنسان شيئاً، لكنها النفس، لها كبرياؤها، ولها نفورها، ولها ما يجذبها ويشدها عن معالي الأمور، فلا تسمو، فلا يرضى كثير من الناس إلا بأخلاق الكلاب -أعزكم الله.
هذا، وأسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1]- أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في معاشرة الناس (4/355)، رقم: (1987)، وأخرجه أحمد (35/284)، رقم: (21354).
[2]- أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل أبي ذر -رضي الله عنه- (4/1919)، رقم: (2473).
[3]- أخرجه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب أبي ذر -رضي الله عنه- (5/669)، رقم: (3801)، وابن ماجه، باب في فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضل أبي ذر (1/55)، رقم: (156).
[4] - أخرجه الحاكم في المستدرك (3/52)، رقم: (4373).
[5] - أخرجه أبو داود، باب في الاستغفار (1/561)، رقم: (1524)، وأحمد، (36/430)، رقم: (22119)، عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
[6]- أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة كفارة (1/196)، رقم: (503)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قوله تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات" (4/2115)، رقم: (2763).
[7]- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب القسامة، باب قبول توبة الساحر وحقن دمه بتوبته (8/136)، رقم: (16281)، وفي شعب الإيمان (9/290)، رقم: (6673).
[8] - أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في معالي الأخلاق (4/370)، رقم: (2018)، وأحمد (11/608)، رقم: (7035)، والطبراني في المعجم الكبير (8/177)، رقم: (7737).