ثروت Admin
عدد المساهمات : 1166 تاريخ التسجيل : 18/06/2014 الموقع : خى على الفلاح
| موضوع: شرح حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى" الجمعة سبتمبر 15, 2017 5:33 am | |
| شرح حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى"
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الثالث في باب التقوى، وهو حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى))([1]).
علاقة هذا الحديث بباب التقوى علاقة ظاهرة، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسأل ربه التقى، ومثل هذا التركيب، والتعبير بالكون المثبت الماضي، وجاء بعده الفعل المضارع يدل على المداومة والتكرار، كما قال الله -عز وجل- عن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55]، فهذا الأسلوب يدل على أنه كان يكثر ويكرر من أمرهم بالصلاة والزكاة، ولا يكتفي بمرة واحدة.
وهنا كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يردد ذلك ويكرره ويكثر منه -عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الأمة تقوى لله -تبارك وتعالى-، وأعظمهم هداية، وهو أيضاً أكملهم عفافاً وغنى، وقد استوفى الكمال في هذه الأمور الأربعة التي كان يسألها، ومع ذلك كان يسأل ربه كثيراً أن يحقق له مثل هذه الأمور، فهذا يدل على أن الإنسان من باب أولى، الواحد منا من جملة الناقصين المفرطين كثيراً، وبحاجة إلى مزيد من اللهج بهذا الدعاء، فإن من أسباب تحصيل التقوى التي نتحدث عنها في مثل هذه الأيام هو الدعاء؛ لأن العبد مهما كانت قدراته ومجاهداته وذكاؤه وفطنته وحرصه فإن الموفَّق من وفقه الله -عز وجل-، ولا يمكن للإنسان أن يحصّل معنى من معاني الكمالات إلا بأن يكون مستعيناً بالله -تبارك وتعالى- فهو الذي يهب الكمال، فيسأل ذلك من الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يسير إلا ما يسره، ولا يحصل في هذا الكون قليل ولا كثير إلا مما قدره -سبحانه وتعالى-، فإذا أراد العبد مطلوباً من مطلوبات الدنيا والآخرة فما عليه إلا أن يتوجه إلى من بيده ذلك كله أن يزرقه الله ذلك.
والغِنى المراد به: غنى النفس، وغنى القلب، بحيث لا يكون فيه فقر لغير الله -عز وجل-، فإذا استغنى القلب وصار مستغنياً عن المخلوقين لله -تبارك وتعالى- فإنه يكون قد حقق الغنى.
وهذه الأمور التي كان يكثر النبي –صلى الله عليه وسلم- الدعاء من أجل تحصيلها لم تكن من أمور الدنيا، بمعنى التكاثر الذي ذمه الله -عز وجل-، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، فكان –صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه حقائق الكمال، وهي هذه الأمور وغيرها مما كان يسأله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء عنه في أدعيته المأثورة.
كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى)) الهدى جاءنا عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسأل ربه الهدى، ويدخل في ذلك هداية الإرشاد بمعرفة معالم الطريق، فالله يوحي إليه، وينقله من هداية إلى هداية، فهذا هو الذي أثبته الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي لم يكن يعرف تفاصيل الأمور، وألوان الهدايات، فبينها الله له، قال الله -عز وجل- فيه {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، وقال: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52].
فالإنسان يسأل ربه أن يرزقه الهدى، بمعنى المعرفة بالحق وبالباطل، وأن يعرف مراد الله -عز وجل-، والهدى الآخر وهو التوفيق إلى هذه الأمور التي بينها الشارع، كثير من الناس يعرف تفاصيل من هدايات الله -عز وجل-، أقل ذلك أن يعرف أن الصلاة واجبة، والصيام واجب، وأن الزنا حرام، والسرقة حرام، وما أشبه ذلك، وكثير من الناس يترك الصلاة ويفعل الفواحش، وهو يعرف حكمها، فدل ذلك على أنه قد عرف هداية الإرشاد، ولكنه لم يحصّل هداية التوفيق من الله -تبارك وتعالى-، وهي التي نفاها الله عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يحاول مع أبي طالب عند موته، فلم يهتدِ ومات على الكفر، قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، والمقصود بذلك هداية القلوب إلى ربها وباريها بالإيمان والتوبة، ولزوم الصراط المستقيم، قولاً وعملاً وحالاً، فهذه من حصلت له فلا شك أنه مهتدٍ، {مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178]. من يوفق للحق فيكون ملازماً له ظاهراً وباطناً فهو المهتدي.
قوله: ((أسألك الهدى والتقى))، التقى: بمعنى أن يكون عند هذا الإنسان حال تقوم في قلبه يحصل بها امتثال الأمر واجتناب النهي، وذكرنا لكم من قبل أنها متفاوتة، من الناس من يرتقي فيكون ذلك حاملاً له على فعل النوافل، وترك المكروهات، ومن الناس من يصل إلى كمال أعظم من هذا، فيترك التوسع في المباحات حتى لا يشغله ذلك عن ربه، وعن المبادرة بالخيرات، فتثقله هذه الأمور من هذا العرض الزائل إذا استكثر منه، وأكثر من اللهو والمباح، فيقعده ذلك عما هو بصدده، فالناس يتفاوتون في هذا غاية التفاوت، قوله: ((العفاف)) يعني: الانكفاف عن كل ما لا يليق مما يخدش الحياء، أو يخدش العرض، أو يدنس الشرف، فيكون ذلك بالتعرض للناس بالمسألة، فهذا مخالف للعفاف، ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله))([2]).
تقول: فلان متعفف، بمعنى لا يذهب ماء وجهه، لا يريق ماء وجهه من أجل أن الناس يعطونه شيئاً مما في أيديهم، هذا من العفاف.
والعفاف أيضاً بمعنى: الستر، والصيانة، والحشمة، وعدم دخول مداخل الريب، إن كانت نساؤه محجبات لا يخرجن لريبة، لا يخلو بهن أجنبي، لا يفعلن ما لا يليق، وهو لا يدخل مداخل الريب، ولا يذهب مع أولاده يتسحبون في دول وعواصم يكثر فيها الفجور والتبرج وقلة الحياء، ونزع جلباب المروءة برمته، فهذا أمر لا يكون لأهل العفاف.
وكذلك أيضاً لا يكون الإنسان عفيفاً إذ كان يتلصص على أعراض الناس، بكل طريقة، بطريقة إلكترونية، أو بغير ذلك مما يفعله بعض مَن نقص عفافه، كذلك الذي يتلصص على حاجياتهم وأموالهم، فيسرق ويأخذ ذلك بخلسة أو بسرقة مكشوفة واضحة، هذا خلاف العفاف، إلى غير ذلك من الأمور التي تخدش شرف الإنسان، وتقدح في عرضه ومروءته، فكل ذلك خلاف العفاف والغنى.
والغنى هو غنى النفس ومَن رُزق هذا فكأنما حيزت له الدنيا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا))([3]).
عنده قوت يومه يعني ليس عنده شيء للغد، كأنما حيزت له الدنيا، فالإنسان ما يدري هل يعيش إلى الغد أو لا، والله قد تكفل برزقه، فليس على الإنسان أن يشقى من أجل التفكير في زرق الغد، وإنما هو بصدد يومه هذا، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
فإذا وُجد الغنى في النفس فإن الإنسان يكون مستغنياً بالله -عز وجل- عن الخلق، لا يذل نفسه، لا يهين نفسه، لا يهدر كرامته من أجل أن الناس يعطونه، أو يلتفتون إليه، ويعرفون حاله، وما أشبه ذلك.
وإذا عدم الإنسان غنى النفس لو أعطي الدنيا وما فيها سيبقى فقير القلب، ينتظر الزيادة، رأينا أناسا يملكون أموالا طائلة، ويملكون مصانع، ويذهب إلى فلان وفلان، يقول: عليّ ديون، أعطوني زكاة، ولربما يفتح بعض المصانع بالديون، ويقول: ما عليّ إلا أن آتي لفلان وفلان فيعطوني من الزكاة، ويأخذ منهم الزكاة، هذا غنيٌّ ويأخذ منهم الزكاة، فهذا غنيٌّ والعرض بيده كثير، ولكن قلبه فقير.
سألت مرة أحد طلبة العلم في الجمهوريات التي تسمى الجمهوريات الإسلامية عن حال الناس في بلده، فقال: "الخير كثير في أيديهم، ولكن الفقر كبير في قلوبهم"، فهذه عبارة مختصرة، لكنها معبرة، الفقر في قلوبهم، وإذا دخل الفقر في القلوب لا تسأل عن حال الإنسان، مهما أعطي يظل يلهث وراء الدنيا، يشعر أنه ناقص، أنه أقل من الآخرين، أن هناك أشياء فاتته، أنه خسر أشياء، أن عليه أن يحقق وينجز ويكسب ويربح، ويدخل في المساهمة الفلانية، ويشتري كذا ويفعل، ويتضجر إذا قيل له: ما يجوز، أو هذا حرام، أو هذه فيها شبهة، أو نحو ذلك.
وهو يشعر دائماً أنه ناقص، أنه مغبون الحظ، وأنه ليس كالآخرين الذين حققوا نجاحات، وأنه فاته القطار، فعليه أن يكثر الجري، ويلهث وراء هذه الدنيا، لعله أن يحصّل بعض ما فاته بكل طريق، ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس))([4]).
ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يربي أصحابه على هذا المعنى، فلما جاء مال من البحرين تعرض له الأنصار، فلما رآهم ابتسم -عليه الصلاة والسلام- وقال: ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم))([5]).
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي العالم الكبير المعروف صاحب أضواء البيان كان يقول: جئت من البلاد، ومعي كنز لا يقدر بثمن، وهو القناعة، يقول: الجوع يُطرد بكسرة من الخبز، لكن أهم شيء أن لا يذهب ماء الوجه.
يمكن للإنسان أن يتخذ "فريزر" ويملؤه خبزاً يكفيه سنة يأكل منه، لكن ماء وجهه لا يذهب، هذا أهم شيء أن تبقى للإنسان كرامته، يأكل خبزاً، ولو خبزاً يابساً، لكن يبقى ماء وجهه.
فهذه المعاني نحتاج أن نربي عليها أنفسنا، ونحتاج أن نربي عليها أولادنا.
أسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم الهدى والغنى والعفاف، وأن يشفي مرضانا، ويرحم موتانا، ويعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
[1]- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (4/2087)، رقم: (2721).
[2]- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (2/534)، رقم: (1400)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر (2/729)، رقم: (1053).
[3]- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (4/574)، رقم: (2346).
[4]- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس (5/2368)، رقم: (6081)، و مسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغني عن كثرة العرض(2/726)، رقم: (1051).
[5] - أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (5/2361)، رقم: (6061)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/2273)، رقم: (2961).
| |
|