زائر زائر
| موضوع: موسى (عليه السلام) في البحر الجمعة أبريل 11, 2014 3:56 pm | |
| موسى (عليه السلام) في البحر الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شئً عليم ونشهد أنه الإلهالواحد الاحد الذى لم يكن له ضريك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيراً ونشهد أن لاإله ألا الله وأن محمدا رسول الله نشهد أن رسولنا صل الله عليه ويلم قص علينا ثصص القرآن وأرآنا من القرآن ما فيه البيان حتى نسلك سبيل الحق وطريق العدايه وبعد أحبتى فى الله لقد لقي بنو إسرائيل في مصر العنت والإرهاق من كبت فرعون وظلمه فانهم وإن أمِنوا على أنفسهم ـ نوعاً ما ـ من القتل، بعد أن أرى موسى لفرعون الآيات، من الدم، والقمّل، والضّفادع، وغيرها ـ إلا أن فرعون العنيد ، وأتباعه الكفرة ما زالوا يضايقون موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، حتى ضاقوا بالأمر ذرعاً. إن الأغلبية السّاحقة من المصريّين كانوا ينظرون إلى موسى والمؤمنين شزراً، وكانوا يشبعونهم إهانات، والمؤمنون صابرون صامدون، لكن إلى متى؟ وكثرت الشكوى إلى موسى حول هذا الموضوع. ولكن ما هو العلاج؟ وجاء الفرج.. وذلك بأن أوحى الله تعالى إلى موسى بالخروج من مصر، وهل المكان منحصرٌ في مصر؟ كلاّ! إذن إلى أين؟ وكيف؟ وهل هذا الأمر سهل؟ كلاّ! فإنه خروج مما يقارب الثلاثة أرباع المليون، تاركين وراءهم مكاسبهم ومنازلهم، وكلّ ما يتعلّق بهم من أصعب الأمور. غير أن الاضطرار قد يكلّف الإنسان رهقاً.
قرر موسى ـ حسب أمر الله تعالى ـ الهجرة من مصر مع بني إسرائيل أجمع، ويا له من قرار خطير! ثم هل يمكنهم الفرار من يد الطاغية فرعون، وهو يرصدهم، ويبغي لهم الغوائل؟ لكن قدرة الله تعالى أكبر من كل شيء وتدبيره أحسن من كل تدبير، لقد أفجع سبحانه آل فرعون بنفوس أعزّائهم، فمات كثيرٌ منهم، مما أشغل بالهم، وأخذوا في النّواح والنّدبة لأعزائهم. وهنا حان الوقت ليفرّ بنو إسرائيل من مصر، حين اشتغال القبط بأنفسهم وكان الذين يريدون الفرار، يقاربون ثلاثة أرباع المليون، وفي ليلة الميعاد المقرّر خرج هذا الجمع الغفير، تحت ظلام الليل، وأسرعوا من المدينة مع موسى وهارون أحدهما يقود الجمع، والآخر يسوقهم، لئلا يفرط منهم، ولا يسير أحد بدون قيادة. وهكذا ساروا بكل سرعة وهدوء، حذرين خائفين، وإن جاسوساً واحداً لفرعون يكفي لإدراك الطلب. وهل من الممكن أن يسير الجمع الكثير بدون أن ينتبه قبطي واحد؟ وهل من الممكن الإفلات من قبضة فرعون الحديدية، الذي كان يعتبر هؤلاء ـ إن ظفر بهم ـ عبيداً آبقين؟ وفي أثناء السير ـ والذعر قد أخذ منهم كل مأخذ ـ إذا بهم يصطدمون بالبحر يا لها من مفاجأة! ماذا يصنعون؟ هل يرجعون أو يبقون؟ وكلا الأمرين فيه خطرٌ وأي خطر؟ لا بد وأن يدركهم فرعون، وهناك العذاب والتنكيل لمّا رأوا البحر أمامهم، (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) يدركنا فرعون وجنوده. (قال) موسى: (كلاّ إن معي ربّي) يحفظني، ولا يكلني إلى الأعداء فـ(سيهدين) طريق الخلاص ممّا أمامنا من البحر، وممّا وراءنا من فرعون. وهنا جاءتهم النجدة من الله تعالى، فأوحى إلى موسى: (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) فضرب موسى (عليه السلام) عصاه بالبحر، فانجاب الماء، وظهرت في البحر طريقٌ، وكان طول البحر الذي يلزمهم عبوره (أربعة فراسخ) فيا للهول، وقف الماء كأنه جمد، في حافتي الطريق، وفي الوسط طريق لاحب. خاف أصحاب موسى من العبور قائلين: كيف نعبر في الوحل؟ فأرسل الله الرياح، وأشرقت الشمس في الطريق فيبست، ثم ماذا؟ قال أصحاب موسى: إنا لا نعبر في طريق واحد، ونحن اثنتا عشرة قبيلة، فمن يتقدم ومن يتأخّر؟ فضرب موسى عصاه بالبحر حتى صار اثني عشر طريقاً، لكل سبط طريق والماء بين الطرق كالحاجز.. وهل من عذرٍ بعد؟ نعم.. قالوا لموسى كيف نعبر وبعض الأسباط لا يرى السبط الآخر، ولعل أذى يصيبه، لأن الماء حاجز بين الطرق؟ ورحابة صدر موسى العظيم تقبل حتى هذا العذر التافه، ويجعل له حلاً، إذ أشار موسى بــعصاه فصارت الحواجز كأنها شبابيك، يتمكن كل سبط أن يرى سائر الأسباط طول الطريق.
(انفلق) الماء ببركة عصا موسى (فكان كل فرق كالطود) أي الجبل العظيم فانسابت القبائل في الطريق المهول، إن الأرض جافةٌ، والشمس مشرقةٌ عليهم، وهم كثرةٌ هائلة، يحدث بعضهم بعضاً، وكلّهم مطمئنّو القلب بحكمة القائد والسائق، واثقين بوعد الله ولطفه. ولكن هل يبعث ذلك كله الاطمئنان الكامل؟ كيف والماء ماء، والبحر بحر، والطريق طويل، إنه ليس ذراعاً وأذرعاً، وإنما يبلغ أربعة فراسخ؟ وممّا زادهم قلقاً وارتباكاً، ما لمحوه من بعيدٍ من الجيش اللجب العرمرم، الذي قاده فرعون لإدراكهم. فقد عرف فرعون بعد لأيٍ أن بني إسرائيل نزحوا عن المدينة، فتعجّب إلى أين ذهبوا؟ وبعد التحقيق تبين أنهم فرّوا ليلاً في اتجاه البحر فثار فرعون وهيّأ جيشاً ضخماً، قوامه مليون وستمائة ألف جندي. واطمأنّ فرعون بالنصر، فإن الأمر لديه واضحٌ كل الوضوح، إنه ليست هناك سفن تقلّ أصحاب موسى عبر البحر، ولا طاقة لبني إسرائيل حتى يقاوموا جيش فرعون المنظم المسلّح، فما هي إلا عشية أو ضحاها، حتى ينتقم من الفارّين أشد انتقام؟ وهكذا جاء فرعون حتى وصل إلى البحر وهنا رأى العجب! هاهي المياه تراكم بعضاً على بعض، حتى فتحت الطرق! ما أغرب هذا الأمر! وما العمل؟ خاف قوم موسى قائلين: (إنا لمدركون). لكن موسى لم يخف إنه واثق بفضل الله ونجاته. ووصل أصحاب موسى إلى منتصف البحر، حين وصل فرعون إلى أوّله. لقد خاف فرعون عاقبة الأمر، ولم يدر ماذا يصنع؟ أيرجع؟ وفي رجوعه الفشل الذريع، أم يبقى؟ وما فائدة البقاء؟ أم يسير في البحر وهو لا يأمن الغرق؟ إنه يعلم أنّ الأمر معجزة موسى (عليه السلام)، لكن هل بإمكانه أن يظهر ذلك لقومه، وهو يقول: أنا ربّكم الأعلى؟ وأخيراً قاده غروره، إلى أن يقول لقومه: إن انفلاق البحر معجزة لي، ولمّا علم بأني قاصدٌ صوبه، انجاب إجلالاً لكبريائي. وهل انطلت الكذبة على أصحابه؟ ذلك ما لا نعلمه، وإن كنّا نعلم أن الأذكياء من أصحاب المستبدين، يعرفون كل شيء، ولا يتمكنّون أن يتكلّموا بكلمة! تقدّم منجم فرعون قائلاً له: لا تدخل البحر فإنه خطر. وتوقّف فرس فرعون، فلم يدخل البحر. ومن هناك أراد موسى أن يضرب بعصاه البحر خلفهم، ليرجع الماء كما كان، فلا يلتحق بهم فرعون. لكن كل ذلك لم يحل دون إرادة الله سبحانه. فلقد أوحى إلى موسى قائلاً: (اترك البحر رهواً) ساكناً حتى يدخله فرعون وجنده (إنهم جند مغرقون). ولم يبال فرعون بقول منجّمه، إذ أبى ذلك غروره وكبرياؤه. وركب جبرئيل (عليه السلام) (رمكة) فدخل في البحر أمام حصان فرعون.. وتبع الحصان الرّمكة، فدخل فرعون، ودخل الجيش وراءه. وسار الجمعان أصحاب موسى، وأصحاب فرعون، وليس الفاصل بينهم، إلا ما يقارب نصف البحر، وكلّ قلق خائف: أصحاب موسى من العدوّ، وأصحاب فرعون من الغرق. وصل أصحاب موسى إلى شاطئ البحر مخلفين وراءهم البحر بطرقه، والعدو الذي يتبعهم حثيثاً. ووصل فرعون وأصحابه إلى وسط البحر... وهنا، أمر الله الماء أن يرجع كما كان، وإذا بجبال الماء تلفُّهم في أعماق البحر، وإذا بهذا الجيش الكثيف يعلو وينزل في الماء، كأنه كرات بيد صبيان، وإذ أدرك فرعون الغرق (قال آمنت إنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) فقد انجاب عنه سحاب الغرور، وظهر لديه عجزه وحقارته، فقال: (وأنا من المسلمين). وهل ينفع هذا الإيمان؟ فإنه (ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن). ولذا ظهر له جبرئيل (عليه السلام) قائلاً: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) لا، لا، لا ينفع مثل هذا الإيمان في النجاة من عذاب الآخرة، وضرب على فمه بكتلةٍ من (الحماة). لكن هل يلفّ البحر جسد فرعون؟ كلا! إن الناس اعتادوا أن يزعموا بقاء العظماء والمتجبّرين على حد سواء، ولذا ظنّ بنو إسرائيل الذين ملأ قلوبهم جبروت فرعون: أنه لم يمت ولم يغرق، وهكذا زعمت البقية الباقية من القبط الذين لم يخرجوا مع فرعون لإدراك موسى. ولذا أبقى الله جسد فرعون قائلاً: (فاليوم ننجيك ببدنك) بعد إزهاق روحك (لتكون لمن خلفك آية) وعلامة على هلاكك، وأنك لم تكن ربّاً ـ كما كنت تقول ـ وهل يغرق الرب؟ * * * لقد غرق فرعون وآل فرعون، و(كم تركوا من جنّات) بساتين ونخيل، (وعيون) مياه جارية، (وزروع ومقام كريم) من قصور وبيوت ومساكن، (ونعمة كانوا فيها فاكهين) بكلّ سلام ودعة (كذلك وأورثناها قوماً آخرين) من بني إسرائيل وغيرهم. ومن طريف ما يحكى: أن امرأة من بني إسرائيل لما عبروا البحر، جلست على الماء تغسل بعض حاجاتها، وإذا بها ترى جثّة فرعون، وضربها الماء حتى أتت الجثّة قرب المرأة، فأخذت المرأة تقتطع بعض الجواهر التي علّقها فرعون في لحيته وتذكّرت هناك قصّة عذابها على أيدي عمّال هذا الطاغية: فقد كان أمر فرعون جلاوزته بتعذيب بني إسرائيل بأنواع العذاب لعلّهم يرجعون عن الإيمان بإله موسى. تخلّصاً من العذاب، فقد كانوا (يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم) فكانت الجلاوزة تسخّر النساء لأعمال شاقة، حمل الطين وما أشبه على السلالم، إلى السطوح. وكانت هذه المرأة ـ صاحبة القصّة ـ ممن شملهم العذاب، فقد سخّرت ذات مرّة لرفع الطين، وكانت حاملاً، وفي رجلها قيدٌ، لئلا تهرب، فأدّى الحمل والقيد والطين إلى سقوطها عن الدرج، فرضّت عظامها وأسقطت جنينها.. فرفعت رأسها، وهي مذهولة، وخاطبت ربّها: هل أنت نائم يا رب؟ واليوم حيث أخذت تقتطع جواهر لحية فرعون الغريق، ذكرت القصة، وسمعت منادياً غيبيّاً يجيبها، عن كلامها ذاك: (لا، لسنا نائمين)!! لقد غرق الطاغية فرعون بعد ما فسد وأفسد، وضلّ وأضلّ، وطغى وتجبّر، فأين فرعون، وأين جلاوزته، وأين جلاّدوه، وأين سجونه، وأين أعوانه وأنصاره؟؟ بل أين صرحه المدهش؟ فقد (قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وموسى كاذبٌ في مقالته أن للكون إلهاً (فأوقد لي يا هامان على الطين) أوقد النار على الطين، ليكون أجرّاً وجصّاً، (فاجعل لي صرحاً) قصراً عالياً في الهواء. فأصعد إلى السطح (لعلّي أطّلع إلى إله موسى) وقد ظنّ فرعون أنّ الله مقرّه السماء جاهلاً أو متجاهلاً أنه لا مكان لله تعالى، كما أنه لا زمان له سبحانه (وإني لأظنه) أي أظن موسى (من الكاذبين) في قوله إن للكون إلهاً. وهكذا أمر فرعون وزيره (هامان) وامتثل هامان، فسخّر ما يقارب المائة ألف من أهل مصر، لبناء صرح لم ير مثله في العلو والارتفاع، حتى تم البناء، وصعد فرعون وهامان سطح القصر، ثم هيأ (هامان) مهداً ذا أربعة قوائم صاعدة فوقه، وأربعة أساطين نازلة تحته وهيأ أربع نسور قويّة، وربطها بالأساطين، وعلّق فوق القوائم أربع ذبائح، وجوّع النسور. ثم جلس فرعون وهامان في المهد، في أعلى سطح الصّرح، فأخذت الطيور في الطيران كأنها تحاول الوصول إلى الذبائح، حتى بلغ المهد مبلغاً كبيراً في الارتفاع. وهناك لم يريا إلا السماء والأنجم، حيث جنّهم الليل ـ وزاد خوفهما من الصعود أكثر.. فقلّبا وضع النسور واللحوم، بالبكرات والحبال التي كان هامان قد هيأها لمثل هذه المهمّة، إذ نقل النسور من الأساطين إلى القوائم، ونقل اللحوم من القوائم إلى الأساطين. والنسور الجائعة، رأت اللحم في أسفل فأخذت في الهبوط لتصل إليه سدّاً لجوعتها، وهكذا نزل المهد، ولم يظفر فرعون ببغيته. لقد ذهب فرعون الطاغي، وذهب أتباعه وجلاوزته، وذهبت كنوزه وقصوره، وذهب صرحه الذي سخّر له العمال الكثيرين، ليطّلع إلى إله موسى ويشاطره ـ بزعمه ـ الملك والحكم! ورجع البحر رهواً كما كان، كأنه لم يَحْو في بطنه شيئاً من ذلك الجيش اللّجب، بعدده وأسلحته ومعدّاته. ولم يبق إلا جثّة فرعون الهامدة، على رابية قرب البحر حيث قذفته الأمواج (ليكون لمن خلفه آيةً) وعبرة، يعتبر به الجبابرة. ويقال إن إحدى جثث الفراعنة الموجودة في متحف القاهرة هي جثّة هذا الرجل الطاغي، وسواء كان الخبر صدقاً أم مخالفاً للواقع، فقد لفت فرعون وقومه لعنة الأبد، وبقي أمثولةً للاستبداد والكبر، حتى إن الناس اشتقّوا لفظة (تفرعن) من اسمه أي طغى وتجبّر. وبقي موسى (عليه السلام) وقومه المؤمنون الصابرون، مثلاً أعلى لكل فضيلة. لقد عبّر بنو إسرائيل البحر في سلام، وهاهم يرون أمام أعينهم غرق ألدّ أعدائهم، والمعاونين له في إيذائهم، فقد انقضى كلّ شيء، وانتهى أمر فرعون. فلننظر إلى موسى وقومه.. فمن غريب الأمر أن يكون بنو إسرائيل، بعد هذا الاضطهاد والاستعباد، وبعد تلك المعجزات والغرائب، لم تتبلور في نفوسهم روحيّة التوحيد، فإنهم بعد ما خرجوا من البحر، (أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)! وماذا يقول موسى العظيم لهؤلاء القوم؟ (قال موسى إنكم قوم تجهلون) وهل بعد هذه الآيات محلٌّ للكلام؟ لكن قد أُشرِب في قلب جماعة منهم حب الأوثان أليسوا قد عبدوا العجل بعد مدة أخرى أيضاً؟ هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى.. (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) ينظر إليهم فرعون بنظر الضعف والمهانة (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) فقد صارت أراضي مصر وأراضي سوريّا، تحت سلطة موسى وقومه. (وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) فقد دمّر الله سبحانه قصور فرعون، وبالأخص صرحه الذي بناه له (هامان). وذلك بأن ضرب جبرئيل (الصرح) بجناحه، فصار دكّاً ولم يبق منه أثر. أما مصر: فبعد أن هلك فرعون، بعث موسى جندين عظيمين من بني إسرائيل كل جند اثنا عشر ألفاً، إلى مدائن فرعون ـ ولعل البعث كان بالسفن ـ وتلك المدائن كانت خالية من أهلها، لم يبق منهم إلا النساء والصبيان والزمنى والمرضى والهرمى. وجعل الآمر على أحد الجندين (يوشع بن نون) وعلى الجند الآخر (كالب بن يوفنا) فدخلوا بلاد فرعون. هاهي البلاد خالية! وهاهو محل القوم الذين طالما عتوا وطغوا وبغوا في الأرض بغير حق! وهاهي قصور فرعون وبساتينه وحدائقه، خلت من الطاغية الذي سام هؤلاء أشدّ ألوان العذاب، فكان (يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم) تجاوب السوم في أرجائها، عوض المستبد العاتي الذي كان ينادي بملء فمه (أنا ربكم الأعلى) و(ما علمت لكم من إله غيري). إنه من الطبيعي أن تجيش في صدور بني إسرائيل الذين يرون كل ذلك ألف جائشة وجائشة، ويتذكّروا أيّامهم الماضية التي قاسوها، تحت الذل والاستعباد، والظلم والاضطهاد.. كيف أخرجوا بغير حق إلا أن يقولوا: ربّنا الله؟ وكيف اضطرّوا إلى ترك بلادهم بدون مبرّر؟! وكيف كان الأمر، فهل أمروا من قبل النبي الظافر موسى بن عمران (عليه السلام) بأخذ الغنائم، ولذا حملوا كنوزهم وأموالهم، وما أقلّت الحمولة من أثاث ورياش، كما أنهم باعوا قسماً مما وجدوا له مشترياً. أما الجيشان فقد قفلا راجعين إلى موسى، بعد ما خلّف (يوشع) رجلاً صالحاً على تلك البلاد، ليملأ الأرض بصوت التوحيد، بعد ما ملأها فرعون بصوت الكفر والوثنية. إلى أين مسير هذه الجماعة الغفيرة التي تقارب ثلاثة أرباع المليون؟ إن مثل هؤلاء الجماعة لابد وان يسكنوا بلداً يسعهم، ولكن أي البلاد يستطيع أن يرحب بمثل هذه الكثرة العظيمة؟ وكيف يتمكّنون من أن يعيشوا في بلاد غربةٍ بدون مؤهلات؟ إنها مشكلة كبرى لهم، وللبلد الذي ينزلون فيه، ولقائدهم موسى بن عمران (عليه السلام) الذي لابد وأن يلاقي الصعوبة من قومه ومن أهل ذلك البلد الذين يريدون النزول فيه. ولا يتمكّنون من أن يعيشوا في برّيّة.. إذن فما العلاج؟ لقد حل الله المشكلة، فأوحى إلى موسى أن ينحو نحو الأرض المقدسة، أرض الشام، التي قدّست وبوركت بكثرة الأنبياء، وبكثرة الفاكهة والمياه، وطيب الهواء. وكان ذلك في نفس الوقت حلاً لمشكلتين: مشكلة هؤلاء النازحين، الذين يحدو بهم السير نحو بلاد يعيشون فيها آمنين، يؤدّون شعائرهم بكل حرّية، ويعبدون الله جهاراً، بلا خوف ولا رقابة.. ومشكلة الكفّار الذين كانوا في (الشام) وكانوا إخوان (فرعون) في العقيدة والعمل، فقد كان العمالقة الساكنون في (الشام) كفّاراً عتاةً يفسدون ويظلمون ويبغون في الأرض بغير الحق. أما إذا جاء موسى وبنو إسرائيل وأخضعوهم، فإن صبغة البلاد تنقلب من الكفر إلى الإيمان، ومن الطغيان إلى العدل. أمّا.. لماذا لم يصمّم بنو إسرائيل على الرجوع إلى (مصر) مقرّهم، بعد هلاك عدوّهم؟ فكان ذلك بأمر الله الذي أراد لهم أن يسكنوا الأرض المقدّسة، ولعلّ الغرض من ذلك كان إرادة تطهيرها من الوثنية وعبادة الطاغوت، وقطع يد الظالمين عنها. نزل قوم موسى عند نهر الأردن، وكان من المقرر أن يواصلوا السير حتى يصلوا إلى الشام، لكنهم خانوا وتردّدوا، أمّا موسى فلم يتردد، بل خاطبهم قائلاً: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) أن تدخلوها (ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) بعدم إطاعة أوامر الله، فإن ذلك يوجب خسران الدنيا والآخرة. لكن القوم بقوا على عنادهم، فـ(قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين) هم العمالقة الذين كانوا أقوياء في البنية، أشدّاء، منحرفي العقيدة والعمل (وإنا لن ندخلها) إذ نخاف أن تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة باردةً لهم، ونقع في أسرهم كما كنا في أسر فرعون من ذي قبل (حتى يخرجوا) أي العمالقة (منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون). وقد همّ جماعة من بني إسرائيل بالانصراف إلى مصر، ثم إن موسى بعث من كل سبط من الأسباط الاثني عشر، رجلاً، ليروا وضع الأرض المقدسة، لعلّهم يتشجّعون على دخولها، لكن القوم رجعوا بعكس ذلك، وبعضهم عادوا خائفين وجلين مما شاهدوا من أمر العمالقة. أمر موسى (عليه السلام) الرجال الاثني عشر أن يكتموا ما شاهدوا، لئلا يجبن أصحابه فكتم بعضهم، وأفشى الآخرون، مما زاد الأمر إعضالاً، واستبدّ القوم في عدم الدخول. فـ(قال رجلان) هما (يوشع) و(كالب) (من الذين يخافون) الله ويتبعون أوامره، ممن قد (أنعم الله عليهما) بالإيمان والتقوى: يا قوم لا تخافوا و(ادخلوا عليهم) أي على العمالقة (الباب) باب المدينة، (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) فإن من الطبيعي أن يكون المهاجم رابحاً للمعركة ـ (فما غزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّ ـ (وعلى الله فتوكّلوا) يا قوم (إن كنتم مؤمنين). سخر القوم من كلام (يوشع) و(كالب) وأرادوا أن يرجموهما بالحجارة، وتوجّهوا إلى موسى قائلين: (يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها) فليس لنا طاقة بهم، وقد أُرهقنا في مصر، فلا نوقع أنفسنا في مشكلة ثانية لا ندري ماذا تكون عاقبتها، فإذا أردت أن لا نرجع إلى مصر (فاذهب) يا موسى (أنت وربك فقاتلا) العمالقة حتى تتغلّبا عليهم (إنا هاهنا قاعدون) فإن طهّرت البلاد منهم دخلناها، وإلا فلسنا نحن بداخلين. هنا غضب موسى (عليه السلام)، وتحيّر ماذا يصنع بهم؟ بعد ما أنقذهم من يد عدوّهم (فرعون) وأراهم تلك الآيات البينات. ثم.. توجّه إلى الله سبحانه في ضراعةٍ قال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) هارون (فافرق) وباعد يا رب (بيننا وبين القوم الفاسقين) وإذ لم يسمع القوم كلام الله المنزل على نبيه، وخالفوا موسى بن عمران، استحقوا العقاب والعذاب. فقد أوحى الله تعالى إلى موسى (قال فإنّها) أي الأرض المقدسة (محرّمة عليهم) تحريماً تكوينيّاً، فإني لا أقسم دخولها لهم بعد ما عصوا وعتوا (أربعين سنة). وماذا يكون مصير القوم إذن؟ إنهم في هذه المدة (يتيهون في الأرض) حائرين لا يرجعون إلى مصر، ولا يدخلون الشام، بل هم في هذه المدة تائهون في الصحراء (فلا تأس) ولا تغتم يا موسى (على القوم الفاسقين) مما ينالهم من الصعوبات في هذه المدة. ربما يستغرب كيف يمكن أن يتيه قوم يبلغ عددهم ثلاثة أرباع المليون ـ تقريباً ـ في صحراء، يمكن أن يهتدي إلى الطريق فيها أنفار قليلون في أيام معدودات؟ لكن هذا الاستغراب يتلاشى لو علم الإنسان قدرة الله تعالى على كل شيء، وإنه سبحانه هو الذي أراد هذا التيه لبني إسرائيل عقوبة على ما اقترفوه من المعصية بعدم إطاعة موسى في دخول الأرض المقدسة. هذا.. مع غضّ النظر عن أن الشخص غير المسلم يمكن أن يرى بقاءهم في الصحراء في هذه المدّة طبيعياً، إنهم لم يكونوا يقدرون على الرجوع إلى مصر، بعد أن انقلعت عنها قلوبهم، كما انتقلت عنها أقدامهم، لم يكونوا قادرين ـ حسب زعمهم ـ على دخول الأرض المقدسة، لأن فيها قوماً جبّارين، ولا قبل لبني إسرائيل بهم. إذن فما من حيلة إلا البقاء في الصحراء، حتى ينكشف لهم الطريق الصحيح؟ والجمع الكثير يتمكّنون من إيجاد مرافق الحياة لأنفسهم حتى في المفازة ـ هكذا يعلّل الأمور من لا يريد الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة ـ أمّا نحن ففي غنى عن مثل هذه الكلمات والتوجيهات. فما يتراءى من بعض الذين انهزموا أمام التيارات الإلحادية ـ التي لا تؤمن بالإعجاز ـ من تأويل كلّ معجزة بأمور طبيعية، شطط في القول، وتناقض في التفكير، في فرق بين الإعجاز بالوحي على الرسول، وبين الإعجاز بالتيه في الأرض، أو ضرب العصا بالبحر الموجب لانفلاقه؟ وإن قبلنا الرسالة يلزم أن نقبل كل توابعها، وإن لم نقبل التوابع، فما هو الفارق بين الأمرين؟ فلندع بني إسرائيل في التيه، لنرى إلى ماذا انتهى أمرهم وأمر موسى (عليه السلام) وكيف عاشوا في التيه هذه المدة الطويلة؟ هذا والحمد لله رب العالمين وصل الله على رسول الله وعلى آله وصحبه والتابعين |
|