زائر زائر
| موضوع: رحلة موسى عليه السلام إلى مدين الخميس يناير 23, 2014 7:02 am | |
| رحلة موسى عليه السلام إلى مدين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: يقول الله -عز وجل- في كتابه العزيز: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ): لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين، وفي أخبارهم ما نقص عليك من أمورهم (عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ): لأصحاب العقول والبصائر والأفهام الصحيحة، (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى): أي وما كان لهذا القرآن وما فيه من الأخبار والأحكام والقصص والعظات أن يفترى من دون الله، أي يكذب ويختلق، (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه): أي من الكتب المنزلة من السماء، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء): من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات، والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات، وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب -تبارك وتعالى- بالأسماء والصفات، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات؛ فلهذا كان (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، يوم يفوز المبيضة الناضرة وجوههم بالسلعة الرابحة، ويرجع المسودة المكفهرة وجوههم بالصفقة الخاسرة.
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ومن تلك القصص ذوات العبرة قصة نتأملها اليوم بمشيئة الله تعالى، فيها عبر وفوائد عظيمة، يحتاج إليها كل مسلم في رحلته على هذه الأرض، قصة تتمثل فيها حقيقة الارتباط بالله -عز وجل- في كل حين، والحرص على الخير في كل الظروف، والثقة الكاملة بما عند الله، وانتظار اليسر من قبل العسر، وانتظار الفرج من قبل الكرب، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3].
هذه القصة -أيها المسلمون- هي واحدة من القصص المتعددة التي يقصها الله علينا بشأن موسى -عليه السلام- وما كان يلاقيه في هذه الدنيا.
يقول الله -عز وجل- في محكم التنزيل في سورة القصص: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص: 20-28]. ولنمضِ مع القصة آيةً آيةً لنتلمس ما فيها من عبر لأولي الألباب.
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)، وكان موسى -عليه السلام- قد استغاث به إسرائيلي من شيعته على عدو قبطي من قوم فرعون، فوكز موسى القبطي فقضى عليه، وهذه الفعلة من موسى -عليه السلام- كانت كبيرة عند فرعون وملئه؛ إذ كيف يُقتل قبطي من أجل إسرائيلي حقير؛ إذ إن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واستذلهم، ففي فعلة موسى نوع من التمرد والتجرؤ على فرعون وملئه، وفيها نوع من التحدي بنصرة أولئك الضعفاء المضطهدين؛ لذا ثارت ثائرة فرعون وملئه، وتشاوروا فيما بينهم على قتله، ولكن الله -عز وجل- الذي حفظ موسى منذ ولادته، لم يسلمه لأعدائه، بل قيَّض له ناصحًا أمينًا جاء يسعى من أقصى المدينة، لينبه موسى لحماية نفسه بالإسراع بمغادرة البلدة قبل أن يدركه الملأ فيقتلوه، وأكد له أهمية الخروج وخطورة البقاء بتحذيره الكامن في قوله: (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).
وهكذا يجد موسى نفسه مضطرًّا للخروج من الديار المصرية التي نشأ وتربى فيها، ولكنه ليس أول الخارجين من ديارهم، فكثيرون من قبله من الأنبياء خرجوا من ديارهم، وكثير هددوا بالإخراج منها، فهذا وكل صاحب دعوة وحامل رسالة لابد أن يوطن نفسه على ذلك، فأنبياء الله لم يخلدوا إلى أرض أو وطن، بل نرى في سيرهم كيف كان بعضهم يقضي مراحل طويلة من عمره خارج وطنه، مع صعوبة الانتقال وبعد الطريق في ذلك الزمان، فهذا إبراهيم -عليه السلام- نقرأ في سيرته فتجده مرة يعيش في فلسطين ومرة في الشام في مواجهة النمرود ملك بابل، ومرة يعيش في الجزيرة العربية بواد غير ذي زرع، يرفع القواعد من البيت، ومرة يعيش في مصر، وأين الشام من الجزيرة العربية من مصر؟! وما زمن الانتقال فيها ومخاطره في ذلك الزمان؟!
وهذا موسى -عليه السلام- مرة نجده في مصر، ومرة في مدين، ومرة في الطور، وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- يترك مكة ويحيا بقية حياته بالمدينة، وهكذا يجد الإنسان نفسه ضعيفًا حين يطلع على ذلك النوع من الحياة، فإن مثل هذه الانتقالات لتثقل علينا حتى الآن، وإنما تسهل من أجل جمع الأموال والبحث عن الراحة والرفاهية، أما الاستعداد للخروج أو الإخراج مع ما فيه من مفارقة الدنيا والأموال والأهل والأحباب من أجل الدعوة فلم يزل في حاجة إلى تكوين وتقوية، كذلك إذا اطلعنا على سير الأنبياء فإننا نجد لوطًا -عليه السلام- يهدده قومه: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء: 167]، وشعيب يقول له الملأ الذين استكبروا من قومه: ( لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف: 88]، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يقول الله -عز وجل- عن تآمر المشركين عليه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [إبراهيم: 13].
والذي نريد الإشارة إليه في هذا المقام أن الأنبياء تعرضوا للإخراج من ديارهم، وأن موسى -عليه السلام- في خروجه في هذه القصة لم يكن قد أوحي إليه بعد، ومع ذلك فهذا الخروج نوع من الإعداد والتجربة والتربية على ما فيه من إرادة الله من الخير والنعمة، يقول الله -عز وجل-: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وهنا نرى كيف يكون صاحب الفطرة السليمة مرتبطًا بربه، وإذا خاف فإنما يخاف الخوف الطبيعي من الشر المتحقق لا وهْم الجبناء المنافقين الذين يحسبون كل صيحة عليهم، ثم هو خوف لا يعوق عن إكمال الطريق وتدبير الأمور واتخاذ الأسباب، ولا يلهي عن ذكر الله واللجوء إليه، بخلاف الجبناء الذين يرتبكون وينسون ربهم ولا يلجؤون إليه، بل لا يذكرون إلا الأسباب الأرضية والحماية المادية، ولكن موسى -عليه السلام- لم يكن كذلك، بل اتجه للقوة التي لا تغلب (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خاف قومًا قال: "اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، ونجعلك في نحورهم". فالخوف بهذه الصورة ليس من الخوف المذموم الشركي، بل هو الخوف الفطري الطبيعي الذي لا ينفك عنه البشر في الدنيا، وإنما يسلمون منه في الجنة، حيث لا خوف ولا حزن.
(فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ): فهو متلفت واعٍ لما حوله، ومحتاط لنفسه؛ حتى لا يدركه عدوه، (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): خرج من المدينة وحيدًا فريدًا، لا حيلة له إلا اعتماده على مولاه، والتوجه إليه طالبًا عونه وهداه، ولكن إلى أين يذهب؟! إنه يتوجه تلقاء مدين، وأين مدين؟! إنها في قارة أخرى، فهي بين الحجاز والشام، وهو في مصر، وإنه لعجب: أن يسير تلك المسافة الشاسعة في ذلك الزمان، ولا يذكر لنا القرآن كيف كان ينتقل وماذا كان يأكل، وإنما يُروَى في ذلك أقوال وأخبار تناقلها الصحابة ومن بعدهم ذكروا فيها أنه كان حافيًا ليس لديه طعام إلا ورق الشجر.
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) فهو الاتجاه مرة أخرى إلى ربه مستسلمًا له متطلعًا لهداه، وهكذا نجد موسى -عليه السلام- في هذه الظروف الصعبة المخيفة، بعد فترة من الأمن، بل من الرفاهية والراحة والمتاع في قصر فرعون، نجده يسير وحيدًا مطاردًا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، خرج من المدينة خائفًا يترقب، وليس معه من دليل، يسير مجردًا من قوى الأرض الظاهرة جميعًا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً، ولكنه اتجه إلى رب السماوات والأرض والخلق جميعًا، يستمد منه العون والنجاة والهداية، فيجد ذلك كله عند ربه، فهاهو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء، فيصل إلى مدين ويرد ماءها، لتبدأ سلسلة جديدة من الأحداث المليئة بالعبر النافعة، والحكم البالغة، كما سنرى بعد قليل بمشيئة الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. |
|