عيد الفطر مدته ثلاثة أيام ولذلك كان بعض الصالحين لا يبدأ في صيام الست من شهر شوال إلا بعد أن تنتهي أيام العيد وبعضهم كان العيد في عُرْفه يوم واحد فيبدأ الصيام من ثاني يوم من أيام العيد وورد عن أحد الصالحين أنه كان يؤجل صيام شوال إلي حين الانتهاء من أيام العيد الثلاثة ويقول {لا يحق لمسلم أن يزور مسلماً وهو صائم لا بد أن يترك له فرصة لإكرامه}ولا يستحسن لمفطر أن يزور صائماً فربما لم يُجهز بعد شرابه وطعامه لأنه يُجهز لوقت الإفطار وما دام الله جعل العيد فسحة للمسلمين أجمعين فعلينا أن نفرح بالعيد ونشارك المسلمين في فرحهم في أيام العيد الثلاثة ثم بعد ذلك نصوم غير أني أقول كل هذه الأقوال من باب المستحبات وليس من باب الإلزام لأننا لو سمعنا أقوالاً نسارع فوراً إلي تبني قول والتعصب له أعط نفسك ولغيرك فسحة في تقبل الأقوال فكل قول ليس في كتاب الله أو في سنة حبيبه ومصطفاه واضحاً وضوح الشمس فللأئمة الكرام اجتهادهم في هذا الباب واجتهادهم مادام بنية صالحة لله يدخل في قول النبي {إذا حكمَ الحاكمُ فاجتهدَ ثم أصابَ فله أجران وإذا حكمَ فاجتهدَ ثم أخطأ فله أجر}[1] وكلمة العيد تعني الإعادة وتعني التجديد والإعادة أن يعود الإنسان لحاله الأول الذي خلقه عليه الله فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم في مواجهات لحضرة الله وفي مكاشفات في ملكوت الله وفي مؤانسات مع ملائكة الله وفي صفاء ونقاء مع جميع خلق الله ويظل الطفل في هذه المشاهد العالية حتى تنزل عليه ستارة الحواس أي أنه طالما لم يتحقق الطفل بصورة من حوله فهو في هذه المشاهد وأول ما يتبين الطفل ويعرف أين أمه وأين أباه ويعرف من حوله أي نزلت ستارة الحواس العين والأذن وغيرها تنتهي أحواله العلية ولا ينالها بعد ذلك إلا بالمجاهدات القرآنية وتزكية النفس على منهج خير البرية والله يُحبنا معشر المسلمين يُحب أمة الحبيب إكراماً للحبيب فجعل الله شهر رمضان تستطيع أن تسميها باللغة الدارجة عَمْرة شاملة كاملة للإنسان عَُمْرة للجسد تُصلح كل أعضاء الجسد بالصيام عن الشراب والطعام والنكاح تصلح المعدة والأمعاء وكل الأجهزة وتصلح النفس بتهذيبها وتصفيتها وترقيتها وتخليصها من حجابها ورجوعها إلى صفاءها الأول حتى يكون الإنسان بعد هذه العَمرة النفسية داخلاً في قول رب البرية{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}وعَمرة شاملة للقلب تُزيل منه الأحقاد والأحساد والغل والبغض والكره والأثرة والأنانية وتجعله كما هو دأبه مملوءاً بحب الله وحب حبيبه ومصطفاه وموالاة أولياء الله والتقرب إلى الله بما يُحبه ويرضاه من النوافل والقربات والعبادات والتحبب إلى خلق الله بمعاملتهم بالأخلاق الكريمة التي خلَّقه بها مولاه فيكون في حال{إن الله يُحب من خَلْقه من كان على خُلُقه}[2] ولمـَّا كانت السيارة لا تستطيع أن تمشي في الظلمات إلا إذا كانت أنوارها في أكمل الحالات فكذاك الإنسان لا يستطيع أن يمشي في ظلمات الشبهات والشهوات والمفسدات وطغيان الماديات والأهواء إلا إذا كانت أنواره الربانية التي خصَّه بها الله على أكمل وجه فتُنير له الطريق وتجعله يسير سير أهل التحقيق ويكون داخلاً في قول الله {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}فــــإذا صلح الجسد وصلحت النفس وصلح القلب وصلحت الروح هبَّ على هيكل الإنسان وحقائق الإنسان نفخة روحانية من الحنان المنان تُعيده إلى مشاهد الإيقان التي شهدها قبل وجوده في هذه الحياة فيُعاد إلى يوم (ألست بربكم) ويعيش فيه ويحيا فيه وينظر إلى ما درى وما جرى فيه ويسمع ويرى عياناً وكفاحاً ميثاق الله الذي واثق به الخلق{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فالعيد هنا هو الإعادة أو العودة إلى هذه الأحوال العالية ولذلك فالناس في العيد أنواع علي حسب مقامهم وقربهم من الله ومتابعتهم لحبيبه ومصطفاه فأما العوام فكأنهم في شهر رمضان محبوسون في سجن لأنهم سجنوا أنفسهم من اللهو ومن اللعب ومما شابه ذلك وشاكل ذلك ولذلك في يوم العيد يجددون الصخب واللهو واللعب ويظنون أن هذا هو المطلوب ويستشهدون بالحديث على غير وجهه ويقولون: قال النبي لما وجد الأنصار لهم عيدان{مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا، يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ}[3] والحديث الآخر عَنْ عَائِشَةَ أنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنىً تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ بالدف وَرَسُولُ اللّهِ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ رَسُولُ اللّهِ عَنْهُ وَقَالَ: دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ فَتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً إِني أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ }[4] فجعل هذا النوع من الناس الفسحة في اللهو واللعب والطرب ولذلك نسمع أنه في أيام العيد تكون أكبر نسبة من المبيعات على مستوى الجمهورية للمسليات والألعاب هؤلاء العوام يحتاجون إلى التنبيه من أولي الألباب لكن بالحكمة وفصل الخطاب لأن عندهم شراسة ويسهل عليهم العداوة والإنقضاض على الفريسة ولذلك يجب تنبيههم بالطريقة المحمدية الربانية السديدة السليمة بالحكمة والموعظة الحسنة التي تؤدي الغرض ولا تُزيد المرض لماذا؟ لأن الموعظة فقط ربما تزيد المرض وتجعله يركبه العناد ويزيد في الفجور لكن لا بد من الموعظة الحسنة التي تؤدي الغرض ولا تزيد المرض وهي الموعظة التي أمر الله بها الناصحين من أهل هذا الدين في كل وقت وحين ومن الناس من يعود إلي صفاءه الأول الذي كان عليه يوم أن نزل إلى هذه الحياة وهذا يُتوج فوراً بتاج ولاية الله {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}فهو في شهر رمضان يُسلم قلبه من الحظ والهوي والأغراض والعلل والبواعث الدنيوية والشهوات والحظوظ الجلية والخفية حتى يكون هذا القلب كما أوجده الله وكما ملأه بعلومه وأحواله سيدنا رسول الله فيتفضل الله على هؤلاء بتجديد في أحوالهم وتغيير في سلوكهم وتطوير في رقيهم في بواطنهم إلى حضرة ربهم وقد قالوا قديماً (إن العيد للبس الجديد) ففهم قوم أن لِبس الجديد هو إبدال الثوب القديم بثوب جديد وهذا حَسن وسُنَّة لأن من سُنة رسول الله أن الإنسان يلبس في العيد أغلي ما عنده من الثياب إن كانت قديمة أو الثوب الجديد إن رزقه الله بثوب جديد لكن جعل الله الأعمال الظاهرة كلها منبهة إلي الأحوال الباطنة وانتبهوا لهذا المعنى فإذا كان النبي قد طالب أصحابه ومن بعدهم ونحن منهم إلي يوم الدين بلبس الجديد من الثياب في العيد فبالأحرى أن يكون قلب كل إنسان صار جديداً لحضرة الله وقد قال في ذلك أحد الصالحين
قالوا غداً العيد ماذا أنت لابسه قلت حلة ساق عبده جرعا
فقر وصبر هما ثوبان بينهما قلب يري ربه الأعياد والجمعا
القلب له لبسة يقول فيها الله {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} فكما ألبست الجسم جديداً ينبغي علىَّ أن أُلبس القلب حالاً ربانياً جديداً من الأحوال التي يحبها الله لا من الأحوال التي ينظر إليها خلق الله نحن في الجسم نلبس ما يُكسبنا أبهة ومنظراً حسناً وشأناً عند الناس لأن الجسم موضع نظرهم حتى أنهم قالوا في أمثالنا(كُلْ ما يعجبك والبس ما يعجب الناس) لكن القلب أُلبسه ما يُعجب الناظر إليه ومَنْ الناظر إليه؟ الذي قال فيه حضرة النبي{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[5] ماذا ألبس في القلب؟ ألبس فيه حلة الفقر والفقر ليس معناه الفقر الدنيوي ولكن معناه الافتقار أي أن يشعر أنه في حاجة مستمرة في كل أنفاسه إلى الله وهذا اسمه الفقر إلى الله أي أنه محتاج إليه وهل هناك أحد لا يحتاج إلى الله في كل نَفَس؟ويُلبسه حلة الزهد في هذه المـُتع الفانية ويُلبسه حلة الصبر على تنفيذ أوامره وشرعه بدون ملل ولا كلل ولا كراهة لأني لو أديت العمل وبي غضاضة فإن هذا العمل لا يُحبه الله ولا يُقبل عليه فلا بد أن أؤدي العمل وأنا أحبه ويُلبسه ثوب الخشوع ويلبسه ثوب الانكسار لله ويلبسه ثوب الشكر لله على عطاءاته وهباته يُلبسه ثوباً من هذه الأثواب الغالية العالية التي تضمنتها حقائق القرآن الباقية الخشية الخوف فالقرآن ملئ بهذه الأثواب التي يجب أن يتحلى بها المرء في قلبه ليُقبل عليه ربه ويجدد الخاصة في يوم العيد مع ثيابهم نواياهم لربهم يُجدد النوايا ويُصلح الطوايا، لأن النبي أنبأنا فقال{إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى}[6] فلا يعمل عملاً صغيراً أو كبيراً إلا ووزنه بميزان الله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ومِنَ المـُخلصين أو إن شئت قلت خاصة الخاصة من يُجدد رعايته ومراقبته لمقام ربه فإن لله عباد يقول فيهم الله{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} هم مع الله في كل الأحوال في اليقظة والمنام في الحل والترحال في المشي وفي الجلوس في الأكل والشرب في أي عمل تجدهم يراقبون الله ويشعرون أن الله يطلع عليهم ظاهراً وباطناً ولا تخفي عليه خافية من أمرهم هؤلاء يُجددون في العيد هذه الرعاية لله حتى يتمكنون في هذا المقام فيرفعهم الله إلى المقام الأعلى وإلى المقام الأرقى حيث حضرة النبي وصحبه الكرام إذاً مِن الناس من يُجددون ثيابهم ومنهم من يُجددون نواياهم ومنهم من يُجدد رعايته لله ومنهم من يُجدد مراقبته لله وتجديد المراقبة هو مقام أكمل من الرعاية لأن المراقبة مقام شهود { أنْ تَعْبُدَ اللَّهِ كأَنَّكَ تَراهُ} هذا مقام المراقبة { فإنْ لم تَكُنْ تَراهُ فإِنَّهُ يراك}[7] هذا مقام الرعاية وهو المقام الأعلى في الصالحين والصالحات وهؤلاء القوم يقول فيهم القائل
في كل نَفَسٍ لهم نور يواجههم من حضرة الحق ترويحاً وتيقينا
فيُجددون هذه الأحوال العالية مع العيد ليتمكنوا في أي مكان من مراقبة الله ويزيد نموهم في هذا المقام وقربهم في المتابعة للحبيب المصطفي أحوال كثيرة يجددها الصالحون في العيد ولذلك العيد للصالحين عَوْد حميد إلي مقام جديد من عند الحميد المجيد يُلبسهم فيه ويُحلهم فيه النبي الكريم ومَن لم يحدث له هذا فلا يشعر بحلاوة في قلبه للعيد وإنما يُعَيِّد كما يُعيِّد الأطفال والصبيان لكن هؤلاء الرجال ليسوا كذلك دخل رجل على الإمام عليّ في يوم العيد وهو يأكل خبزاً جافاً فقال: ما هذا يا إمام؟حتى في يوم العيد فقال {وما العيد؟ اليوم عيد من تَقبَّل الله صيامه وشكر سعيه وغفر ذنبه اليوم لنا عيد وغداً لنا عيد وبعد غد لنا عيد وكل يوم لا نعصى الله فيه فهو لنا عيد} و لما رأى كرّم الله وجهه زينة النبط بالعراق في يوم عيد قال {ما هذا الذي أظهروه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يوم عيد لهم فقال: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو لنا عيد }[8] انظر إلى المفاهيم الناضجة عند الإمام عليّ فهذا هو العيد الذي يعيشه الصالحون لا بد أن يفوز بحال جديد ومقام حميد من عند الحميد المجيد كشوف الترقية تنزل يوم العيد فلا بد أن يكون لك اسم في هذه الكشوف لمن ذلك؟ لمن أقبل على القلب وليس على القالب لمن أقبل على القلب وجعل أعمال القالب والجوارح والأجسام منبهات إلى ما يرجوه الله من قلوب القوم الكرام الذين يتأسون بالمصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام