ثروت Admin
عدد المساهمات : 1166 تاريخ التسجيل : 18/06/2014 الموقع : خى على الفلاح
| موضوع: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الجمعة أكتوبر 19, 2018 7:22 pm | |
| شرح حديث ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
• عن أبي بَكْرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبرِ الكبائر؟ ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، أو قول الزور))، وكان رسول الله متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!
وفي الصحيحين عن أنس بنحوه وزاد فيه: ((وقتل النفس)).
وورد نحوه عند البخاري من حديث الشعبي عن عبدالله بن عمرو، وزاد فيه: ((اليمين الغَموس))،
قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: ((الذي يقتطع مال امرئٍ مسلم هو فيها كاذب)).
• وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)).
- وعن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الكبائر شَتْمُ الرجل والديه))، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسُبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
أولًا: ترجمة رواة الأحاديث:
أبو بَكْرة - رضي الله عنه - تقدمت ترجمته في الحديث الرابع والأربعين من كتاب الإيمان، وأما أنس - رضي الله عنه - ففي الحديث الثالث، وأما عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - ففي الحديث الثالث والعشرين، وأما أبو هريرة - رضي الله عنه - ففي الحديث الأول.
ثانيًا: تخريج الأحاديث:
أما حديث أبي بكرة فأخرجه مسلم حديث (87)، وأخرجه البخاري في "كتاب الشهادات" "باب ما قيل في شهادة الزور وكتمان الشهادة" حديث (2510)، وأخرجه الترمذي في "كتاب البيوع" "باب ما جاء في التغليظ في الكذب والزور ونحوه" حديث (1207)، وأخرجه النسائي في "كتاب التحريم" "باب ذكر الكبائر" حديث (4021).
وأما حديث ابن عمرو الذي انفرد به البخاري فهو في "كتاب استتابة المرتدين" "باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة" حديث (6920).
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم حديث (89)، وأخرجه البخاري في "كتاب الوصايا" "باب قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]" حديث (2766)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الوصايا" "باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم" حديث (2874)، وأخرجه النسائي في "كتاب الوصايا" "باب اجتناب أكل مال اليتيم" حديث (3673).
وأما حديث عبدالله بن عمرو فأخرجه مسلم حديث (90)، وأخرجه البخاري في "كتاب الأدب" "باب لا يسب الرجل والديه" حديث (5628)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الأدب" "باب في بر الوالدين" حديث (5142)، وأخرجه الترمذي في "كتاب البر والصلة" "باب ما جاء في عقوق الوالدين" حديث (1902).
ثالثًا: شرح ألفاظ الأحاديث:
(ألا أنبئكم)؛ أي: ألا أخبركم.
(بأكبر الكبائر): جمع كبيرة، وهي الفَعلة القبيحة، وسيأتي تعريف الكبيرة شرعًا، والخلاف في ذلك في فوائد الحديث.
(ثلاثًا)؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كرر هذا اللفظ ثلاث مرات.
(الزور): قال ابن الأثير: "الزور: الكذب، والباطل، والتهمة"؛ [انظر: النهاية مادة (زور)].
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس): الاتكاء: الاضطجاع على الجنب، أو الاعتماد على الشيء بالجنب واليد، وتخلِّيه صلى الله عليه وسلم عن الاتكاء إلى الجلوس هو إشعار بعظمة ما سيقوله واهتمامه له.
(حتى قلنا: ليته سكت)؛ أي: أشفقنا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم وانزعاجه، حتى قلنا في أنفسنا وتمنينا سكوته.
(اليمين الغَموس): سيأتي الخلاف في المراد بها في فوائد الحديث.
قال ابن الأثير: "هي اليمين الكاذبة الفاجرة؛ كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غَموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، وفعول للمبالغة"؛ [انظر: النهاية مادة (غمس)].
(اجتنبوا السبع الموبقات)؛ أي: ابتعدوا عنها، والموبقات المهلكات من (وبَق) بفتح الباء إذا هلك، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ﴾ [الكهف: 52]، ووصف الكبائر بالمهلكات؛ لأنها سبب في إهلاك مرتكبها، وقوله (السبع) ليس حصرًا لجميع الكبائر بأنها سبع؛ فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على كبائر أخرى في أحاديث أُخَرَ، منها حديثا أبي بَكرة وابن عمرو في الباب، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تعداد سبع كبائر فقال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وهي من أفحش الكبائر وأكثرها وقوعًا، ولذا نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
(السحر): يطلق على ما لطف ودق، والمراد هنا ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه؛ قال تعالى: ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، وسيأتي الكلام على السحر.
(أكل مال اليتيم): المراد بالأكل الاستيلاء لا لذات الأكل، وعبر عنه بالأكل؛ لأنه الغالب. واليتيم هو من فقد أباه ولا زال دون البلوغ، بخلاف من فقد أمه؛ لأن الأب هو الذي ينفق عليه، فإذا مات أبوه انقطعت عنه النفقة، فتيتَّم وانفرد.
(أكل الربا)؛ أي: تعاطيه بالأخذ والإعطاء، والربا لغة: الزيادة، وفي الشرع: هو تفاضل أو زيادة في أشياء منع الشرع من زيادتها، وهذه الأشياء هي الأموال الربوية.
(والتولي يوم الزحف): التولي: هو الفرار، ويوم الزحف هو يوم القتال.
(وقذف المحصنات)؛ أي: رميهن بالزنا، والمحصنات - بكسر الصاد قرأ الكسائي، وبالفتح قرأ الباقون، وهما قراءتان سبعيتان صحيحتان - والمحصنات العفيفات.
(الغافلات)؛ أي: الغافلات عن الفواحش؛ لبُعدهن عن ذلك، وليس معنى هذا أنه يجوز قذف غير الغافلات، وإنما نص على الغافلات لتغليظ الذنب.
(شَتْم الرجل والديه): الشتم هو السب؛ ولذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بالسب حينما سئل عن الشتم في حديث الباب، والتعبير بالرَّجل جرى على الغالب؛ فالحكم كذلك بالنسبة للمرأة.
رابعًا: من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى:
أحاديث الباب فيها بيان جملة من الكبائر، وجاءت أحاديث الباب متفاوتة في عدد الكبائر؛ ففي حديث أبي بَكرة ثلاث كبائر، وفي حديث أنس زيادة: "قتل النفس" فتكون أربعًا، وفي حديث أبي هريرة سبع كبائر، وهي أكثر الروايات عددًا، وهل معنى هذا أن الكبائر عددها سبع؟
الجواب: لا، بل هي أكثر من ذلك، بدليل وجود كبائر أخرى لم ترِدْ مع السبع الواردة في حديث أبي هريرة، ومن ذلك: عقوق الوالدين وشهادة الزور الواردتان في حديث أبي بكرة في الباب، وروى الطبري أن ابن عباس سئل عن الكبائر: أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين، وفي لفظ إلى سبعمائة أقرب، وهذا من المبالغة في العدد، وإنما ذكرت السبع المهلكات في حديث أبي هريرة؛ لكونها من أفحش الكبائر وأكثرها وقوعًا وانتشارًا.
واختلف أهل العلم في الكبائر: هل تدرك بالعد أو تدرك بالحد؟ على قولين:
الأول: قالوا: تدرك بالعد، فبدؤوا يحصون الكبائر الواردة بلفظ كبيرة في الكتاب والسنة.
والثاني: قالوا: تدرك بالحد - وهو قول الأكثر والأظهر والله أعلم - ثم اختلفوا في حدها (أي: ضابطها وتعريفها الشرعي) على أقوال كثيرة، أشهرها أربعة:
القول الأول: أن الكبيرة كل ذنب رتب عليه غضب أو لعنة أو نار أو عذاب أو حد في الدنيا، وما سوى ذلك فهو صغيرة.
والقول الثاني: أن الكبيرة كل ذنب يُقدِم عليه صاحبه من غير خوف أو حذر أو ندم، كالمتهاون بارتكابه.
والقول الثالث: أن حد الكبيرة ليس معروفًا، والحكمة من ذلك ليحرص العبد على الامتناع من جميع المعاصي؛ مخافة أن تكون كبائر.
والقول الرابع: أن الكبيرة كل ذنب أوجب حدًّا من الحدود، وحديث أبي هريرة في الباب يرد على هذا الضابط؛ لأن منها ما ليس فيه حد.
وأظهر الأقوال - والله أعلم - هو القول الأول، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ونسبه ابن تيمية لبعض السلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمثل الأقوال فيها هو المأثور عن السلف، كابن عباس وأبي عبيد وأحمد بن حنبل، وهو أن الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة، وهو معنى قول القائل: كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار فهو من الكبائر... وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة... والدليل على أن هذا الضابط أولى من غيره من وجوه:
• أحدها: أنه المأثور عن السلف.
• الثاني: أن الله تعالى يقول: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]؛ فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق المدخل الكريم، وكل من وُعِد بغضب أو لعنة أو نار أو حرمان من جنة أو ما يقتضي ذلك - فإنه خارج عن الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك مَن استحق أن يقام عليه الحدُّ لم تكن سيئاتُه مكفَّرةً عنه باجتناب الكبائر.
• الثالث: أن هذا الضابط يرجع إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب؛ فهو متلقى من خطاب الشارع.
• الرابع: أن هذا الضابط يمكن التفريق به بين الكبائر والصغائر بخلاف غيره..."؛ [انظر: مزيدًا مجموع الفتاوى (11/650)، وانظر مدارج السالكين لابن القيم (1/321 - 327)].
الفائدة الثانية: حديث أبي بَكْرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) دليل على أن الكبائر تتفاوت إلى كبائر وأكبر الكبائر، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، واختلفوا في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر على قولين:
الأول: أنه ليس في الذنوب صغائر، بل كلها كبائر؛ لأن كل ذنب فيه مخالفة لله تعالى فهو بالنسبة لجلاله كبيرة.
والقول الثاني: أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، وبه قال جمهور العلماء من أهل السنة، بل حكى الإمام ابن القيم الإجماع على ذلك؛ حيث قال: "والذنوب تنقسم إلى صغائرَ وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار"؛ [انظر: مدارج السالكين (المرجع السابق)، والجواب الكافي ص (186)، وانظر فتح المنعم (1/287)].
وهذا القول هو الأظهر والله أعلم، ومن أدلته ما يلي:
1. قوله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]، قال القرطبي: "لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر وعد على اجتنابها التخفيفَ من الصغائر، دل هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء"؛ [انظر: تفسير هذه الآية في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/185)].
2. قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]؛ فهذه الآية صريحة في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، إذا عرفنا أن المقصود باللمم الصغائر، وعند أهل العلم خلاف في معنى (اللمم) على قولين مشهورين.
قال ابن القيم:
"فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيرًا، قال البغوي: "إن هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن، ورواية عطاء عن ابن عباس، والجمهور على أن اللَّمَمَ ما دون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس، كما في صحيح البخاري من حديث طاوس عنه قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة؛ فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفَرْج يصدِّق ذلك أو يكذبه))..." (إلى أن قال ابن القيم بعد نقل كلام البغوي).. "والصحيح قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبدالله بن مسعود وابن عباس ومسروق والشعبي..."؛ [انظر: مدارج السالكين المرجع السابق، وقد توسع ابن القيم في هذه المسألة، وذكر غير ما تقدم].
• مسألة: هل الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة؟
هذه المسألة مما اختلف فيها أهل العلم أيضًا على قولين:
القول الأول: أن الإصرار على الصغيرة لا يجعلها كبيرة، بل يبقيها صغيرة.
قال الشوكاني: "وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثًا، ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم من أصر عليه؛ فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة"؛ [انظر: إرشاد الفحول (1/99)].
ونوقش بأن هذا مأثور عن ابن عباس؛ فقد روى ابن جرير الطبري في تفسير سورة النساء عن سعيد بن جبير: أن رجلاً قال لابن عباس: "كم الكبائر، أسبع هي؟ قال: إلى السبعين أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار"، وروي قول ابن عباس مرفوعًا؛ رواه القضاعي في مسند الشهاب (853)، والديلمي في مسند الفردوس (7944)، والمرفوع ضعيف؛ [انظر: تضعيفه في المقاصد الحسنة للسخاوي ص (467)، وكشف الخفا للعجلوني (2/364)].
والقول الثاني: أن الإصرار على الصغيرة يصيِّرها كبيرة، وبه قال جماعة من أهل العلم، استدلالاً بأثر ابن عباس المتقدم؛ [انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر (2/216)].
قال ابن رجب: "فالمحسن: هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرًا، ثم يتوب منها، ومن إذا أتى بصغيرة كانت مغمورة في حسناته المكفرة لها، ولا بد ألا يكون مصرًّا عليها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، وروي عن ابن عباس أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة، وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها، فلا بد للمحسن من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش"؛ [انظر: جامع العلوم والحكم (1/449 - 450)].
تنبيه: معنى الإصرار على الصغيرة هو المداومة والاستمرار عليها، هذا هو المشهور، إلا أن أهل العلم ألحقوا به العزم على العود إلى الصغيرة يسمى إصرارًا ولو لم يفعلها أخرى.
قال النفراوي: "وحقيقة الإصرار على الذنب: الإقامة عليه، والعزم على العود إليه"، وقال الجرجاني: "الإصرار: الإقامة على الذنب، والعزم على فعل مثله"؛ [انظر: الفواكه الدواني للنفراوي (1/92)، والتعريفات للجرجاني ص (44)].
الفائدة الثالثة: أحاديث الباب بمجموعها دلت على إحدى عشرة كبيرة، والحديث عنها بإيجاز كما يلي:
الأولى: الإشراك بالله: تقدم الكلام عليه في الحديث السابق، وبيان أن الشرك أعظم ذنب عُصِيَ اللهُ به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
الثانية: عقوق الوالدين: وهو قطع برهما؛ لأنه مأخوذ من العق، وهو القطع؛ ولذا سميت العقيقة للولد بهذا الاسم؛ لأنها تقطع أوداجها.
وعقوق الوالدين من أعظم الذنوب - ويكثر التساهل فيه والله المستعان - ولعظم هذا الذنب قرن بذنب الشرك في حديث الباب، كما قرن التوحيد المنافي للشرك بالإحسان للوالدين المنافي للعقوق في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].
الثالثة: شهادة الزور أو قول الزور: وتقدم أن معناه هو القول الباطل والشهادة الباطلة، وهذه شأنها عظيم، كم استُحِلَّت دماء وفروج وأموال بسبب قول باطل وشهادة باطلة، وأيضًا لعظم شأنها قرنت بالشرك في حديث الباب، وكذلك في كتاب الله تعالى؛ حيث قال: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].
فإن قيل: تكرار النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة وقول الزور وجلوسه لهذا الذنب بعدما كان متكئًا، هل يعني ذلك أنها أعظم من الشرك وعقوق الوالدين؟
فالجواب: لا، ولكن فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأنها أسهل وقوعًا بين الناس، والتهاون بها أكثر، والحامل على شهادة وقول الزور أشياء كثيرة؛ كالعداوة والحسد والطمع وغيرها، فضررها أعظم؛ فهي تحل الدماء والفروج والأموال، يشهد شخص على آخر بأنه قتل نفسًا عمدًا، فيحل بذلك دمه، أو يشهد أن فلانًا عقد على فلانة فيحل بذلك فرجها، أو يشهد لآخر بأن له كذا من الأموال على فلان، فيُحل مال أخيه بغير حق، فالدواعي لشهادة الزور والقول بشهادة الزور كثيرة، بخلاف الإشراك بالله وعقوق الوالدين.
الرابعة: قتل النفس: وجاء تقييدها في حديث أبي هريرة: ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق))، والمعنى أنه إذا كان قتلها بحق - كالقِصاص ونحوه من الحدود - فلا يدخل في المراد، وقتل النفس المراد بها النفس المعصومة، وهي أربعة أجناس: (المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن)، فهذه نفوس حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، وقد جاء الوعيد الشديد في أكثر من آية على من قتل نفسًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
الخامسة: اليمين الغموس: تقدم أنها سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، كما قال ابن الأثير، واختلف في المراد باليمين الغموس على قولين:
القول الأول: أن اليمين الغموس هي التي يحلفها على أمر ماض كاذبًا عالِمًا، وبه قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وهو اختيار ابن حزم وابن تيمية، قالوا: ومن باب أولى يدخل فيها من حلف على يمين كاذبًا ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وجمهور العلماء على أنه ليس فيها كفارة؛ لعظمها؛ [انظر: الفتح "كتاب الشهادات" "باب ما قيل في شهادة الزور وكتمان الشهادة" حديث (2510)، وانظر: أحكام اليمين لشيخنا خالد المشيقح ص (147)].
والقول الثاني: أن اليمين الغموس هي كما جاءت في حديث الباب، وهي اليمين التي يقتطع بها حق امرئ مسلم، واختاره الصنعاني في سبل السلام، وهو اختيار شيخنا ابن عثيمين؛ حيث قال: "فإن حلف على يمين وهو فيها كاذب، فإن كان يقتطع بها مال امرئ مسلم ولو يسيرًا فإنه يلقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، مثال هذا: إنسان ادعى عليه شخص قال: أنا أعطيتك ألف ريال، قال: لا ليس لك عندي شيء، والمدعي ليس عنده بينة، قال القاضي للمنكر: احلف أنه ليس له عندك شيء، فحلف فقال: والله ما له عندي شيء، القاضي سيحكم بأنه لا حق له عليه؛ لأن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، فهذا الرجل الذي حلف وهو كاذب يلقى الله وهو عليه غضبان - والعياذ بالله - ويحرم الله عليه الجنة، ويُدخله النار، نسأل الله السلامة والعافية... وأما ما يتعلق بنفسه مثل أن يقال له: إنك فعلت كذا، فقال: والله ما فعلت، وهو كاذب، فهذا إذا كان كاذبًا فإنه لا يستحق هذا الوعيد"؛ [انظر: شرح رياض الصالحين (2/1775) طبعة دار السلام].
وصاحب اليمين الغموس جاء في حقه وعيدان شديدان:
أولهما: يلقى الله وهو عليه غضبان؛ ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان)).
وثانيهما: وجبت النار وحرمت عليه الجنة؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراكٍ)).
السادسة: السحر: وهو ما لطف وخفي سببه، والمراد به هنا ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار، وهو على نوعين:
الأول: عقد ورقى؛ أي: قراءات وطلاسم، يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، فيتقرب إليهم، وهذا شرك.
والثاني: أدوية وعقاقير، تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله، وهذا ظلم وعدوان.
قال الشنقيطي: "السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته... ومن هذا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافًا متباينًا"؛ [انظر: أضواء البيان (3/333)].
والسحر يدخل في الشرك من جهتين:
الأولى: بما فيه من استخدام الجن والشياطين، والتقرب إليهم من دون الله بما يريدونه ليوصلوا الساحر إلى مبتغاه.
والثانية: بما فيه من ادعاءٍ لعلم الغيب، وفي هذا منازعة لله عز وجل في خصوصياته؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].
السابعة: أكل مال اليتيم: والمراد به الاستيلاء على ماله أيًّا كان، وعبر بالأكل لغلبته، واليتيم من فقد أباه وهو لم يبلغ، فإذا بلغ لا يسمى يتيمًا، وفي أكل ماله وعيد شديد؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
الثامنة: أكل الربا: والربا في اللغة الزيادة، وهو تأخير أو زيادة في أشياء اشترط الشرع تقابضها أو تمالكها، وهي الأموال الربوية الستة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والبُرُّ بالبر، والملح بالملح، مِثلاً بمثل، سواءً بسواء))؛ رواه مسلم، وهو على نوعين: ربا فضل، وربا نسيئة، التفاضل وهو الزيادة توقع في ربا الفضل، والتأخير يوقع في ربا النسيئة.
وجاءت الأدلة الكثيرة في تحريم الربا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]، ولعظم جرمه لعن كل من وقع واشترك فيه؛ ففي صحيح مسلم من حديث جابر: "لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم في الإثم سواء)).
التاسعة: التولي يوم الزحف؛ أي: يوم القتال، وهو في الحديث مطلق في أن أي تولٍّ يوم القتال كبيرة من كبائر الذنوب، وليس كذلك؛ فإن القرآن خصص ذلك وأخرج حالتين يجوز فيهما التولي؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال: 15، 16]، وهذا من الأمثلة على تخصيص القرآن للسنة؛ فإن التولي كبيرة من كبائر الذنوب إلا في حالتين دلت الآية عليهما، وهما: ﴿ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ﴾ [الأنفال: 16].
العاشرة: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات: وهي كبيرة من كبائر الذنوب أيضًا، وقد جاء الوعيد عليها أيضًا في كتاب الله تعالى؛ حيث قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].
فإن قيل: هل قذف الرجل المحصن الغافل المؤمن من كبائر الذنوب أيضًا؟
فالجواب: نعم، لكن الحديث فيه ذكر النساء؛ لأن قذفهن كثير بخلاف الرجال.
الحادية عشرة: شتم الرجل والديه، وسواء كان هذا السب والشتم مباشرة من الابن لوالديه أو كان من طريق غير مباشرة، وذلك بأن يتسبب في شتم والديه؛ كما في حديث الباب: فيسب أبا رجل آخر فيسب الرجل أباه بمثل ما اعتدى عليه، وهذا فيه أن المتسبب يكون أحيانًا كالمباشر.
وفي هذا الحديث أصل من الأصول، وهو سد الذرائع، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أبي رجل آخر سدًّا لذريعة أن يعتدي عليه الآخر بمثل ما اعتدى عليه، فيرد السب لأبي الساب الأول المعتدي أولاً، ولا شك أنه فعل ما يحرم، ولكن أحيانًا يكون الفعل أصله جائزًا، ولكنه يؤدي إلى محرم، فيحرم هذا المباح سدًّا للذريعة التي تؤدي إلى محرم، والأصل في هذا الحديث قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108]، فيؤخذ منه مثلاً: منع بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، سدًّا لهذه الذريعة، ومنع بيع السلاح لمن يقطع به الطريق ونحوه، سدًّا للذريعة، والله أعلم.
هذا ما تيسر قوله في هذه الكبائر بإيجاز، وكثير منها سيأتي في بابه، فيكون عندها التفصيل.
الفائدة الرابعة: حديث أبي بكرة وحديث عبدالله بن عمرو فيهما أدبان من آداب طالب العلم مع شيخه، وهما:
الأول: إشفاق الطالب على شيخه حين يراه منزعجًا، ويتمنى عدم غضبه لما يرى من الضيق الذي لحق به، وهذا يؤخذ من قوله: "حتى قلنا: ليته سكت" حين كرر النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من شهادة الزور.
الثاني: مراجعة الطالب لشيخه فيما أشكل عليه، وهذا يؤخذ من قولهم: "وهل يشتم الرجل والديه؟".
| |
|