أبو أحمد المشرف العام للمنتديات
عدد المساهمات : 87 تاريخ التسجيل : 05/11/2016
| موضوع: مم تكون الصدقة؟ الثلاثاء سبتمبر 11, 2018 3:14 pm | |
|
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد حث الله عباده المؤمنين على الإنفاق من طيبات ما كسبوا ومما أخرجه الله لهم من الأرض، كما نهاهم وحذرهم من النفقة من كل مال خبيث؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} سورة البقرة(267).
سبب النزول:
عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- في قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيأكل فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}..
شرح الآية:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أي مما كسبتموه بطريق حلال؛ و{كَسَبْتُمْ} أي ما حصلتموه بالكسب، كالذي يحصل بالبيع والشراء، والتأجير، وغيرها؛ وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها"، وقال مجاهد -رحمه الله-: "يعني التجارة بتيسيره إياها لهم"..
قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل، والأعناب، والزروع، والفاكهة، والمعادن، وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه..
قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: "أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولهذا قال: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} أي تقصدوا الخبيث {مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ} أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
و "الإغماض" أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير كقوله: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} سورة الحـج(37)، وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم جواد ويجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة من يقرض غير عديم ولا ظلوم وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه.
بعض الفوائد المأخوذة من الآية:
1. فضيلة الإيمان؛ وأن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ} فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.
2. في هذه الآية الحث على الإنفاق، وبيان الأسباب الموجبة لذلك من كون الإنسان ينفق من طيبات ما كسبه وحصله، وكذلك مما أخرجه الله له من الأرض.
3. وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.
4. أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟ فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ} سورة البقرة(275).
5. وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}، وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب الزكاة في القليل؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)؛ و "الوسق" هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي. ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق)؛ و "الوسق" كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها؛ لأن السنة بينت أنه لابد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق. وفي هذه الآية لم يبين مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.
6. وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}، لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة. وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز -والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية- أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.
7. تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}..
8. الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)1؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟!! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟!! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)2، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة!
9. وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها؛ لأنها داخلة في قوله: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}..
10. وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن.
11. أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض، لقوله {أَخْرَجْنَا لَكُم} فمن أخرجت له وجبت عليه.
12. أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض، وأموال التجارة مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى.
13. أن الرديء ينهى عن إخراجه ولا يجزئ في الزكاة3.
وغير ذلك من الفوائد التي يمكن استخراجها من هذه الآية، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك.
2 رواه مسلم.
3 يراجع: تفسير القرآن العظيم (1 /428) ابن كثير. والجامع لأحكام القرآن (3/304) للقرطبي. ومعالم التنزيل(329) وتيسير الكريم الرحمن (115) لابن سعدي. وتفسير ابن عثمين، المجلد الثالث..
| |
|