ثروت Admin
عدد المساهمات : 1166 تاريخ التسجيل : 18/06/2014 الموقع : خى على الفلاح
| موضوع: الحج وحده وتآلف الجمعة أغسطس 10, 2018 4:52 pm | |
| الحمد لله الذي أمر أهل الإيمان بحفظ الأيمان . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عظيمُ الشان ،وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، المبعوث بالرحمة والقرآن .صلى الله [وسلم] عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنَّكم في يوم هو أعظم الأيام عند الله كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم في مستدركه[1]، فاسلُكوا فيه سبيلَ الإحسان في كلِّ دروب الإحسان، واستبِقوا الخيراتِ واستكثِروا فيه من الباقيات الصالحات، وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:44].
أيها المسلمون، إن وحدةَ الصفّ واجتماعَ الكلمة والتجافيَ على الفُرقة ونبذَ التنازع المفضي إلى الفشل وذهابِ الريح هو من المقاصد الكبرى لهذا الدين، لها فيه مكانةٌ عليَّة ومنزلة ساميَة ومقام كريمٌ، وقد مضى رسول الله الذي نزّل عليه ربّه في الكتاب قولَه سبحانه: وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ [المؤمنون:52]، مضى جاهداً كلَّ الجهد في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة وترسيخ هذه القاعدة الشريفة وإرساء هذا المقصد العظيم في كلّ طَور من أطوار حياته، مبتهلاً كلَّ فرصة، موظِّفاً كلَّ موقف، مستثمراً كلَّ مناسبة، مستعملاً مختلِف ألوانِ البيان، فحرص على التأكيد على حقيقة وحدة الأمة بدوام التذكير بها والعمل على تعميق الإحساس بضرورتها ولزومها في كلّ مناسبة يشهدها وعندَ كلّ موقفٍ يقفُه، لا سيما في هذه المجامع العظام التي يجتمع فيها المسلمون لإقامة شعائر الله، والتي يتبوأ يومُ الحج الأكبر منها موقعَ الصدارة، إذ هو اللقاء الذي تلتقي فيه الوَحدة بالتوحيد أروعَ لقاءٍ وأجملَه وأوفاه.
أما الوحدةُ فتتجلَّى في الزمان وفي المكان وفي الشعائر، وأما التوحيد ففي كلّ شعيرة من شعائر الحجّ وفي كلّ موقفٍ من مواقفه إعلانٌ له ولَهَج به واستشعارٌ لحقائقِه ومعانيه وبراءةٌ من نواقضه، وإذا كان فرصةُ هذا الاجتماع المبارَك في رحابِ بلدِ الله وفي أكناف حرمِه وأمام بيته مناسبةً عظيمة للتوجيه والتذكير والتربية والتزكية لا يصحّ لأولي الألباب إغفالُها ولا إغماض الأجفان عنها، فلا غروَ أنْ كان للأمة من حصادها هذه الخطبةُ العظيمة وهذه الموعظة البليغة والوصية الفذة الجامعة لشريف المعاني وعظيم المقاصد وبليغ العبَر وصادق القول وخالِص النُّصح، وقد أخرجها البخاري رحمه الله في صحيحه بإسناده عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: خطبنا رسول الله يومَ النحر فقال: ((أي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس يومَ النحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أي شهر هذا؟!)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس ذو الحجة؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فأيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: ((أليس بالبلد الحرام؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فإنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربَّكم، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، فربّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرِب بعضَكم رقابَ بعض))[2]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته لأمته: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرِب بعضُكم رقابَ بعض))[3].
وقال في خطبته هذه أيضاً: ((يا أيها الناس، اتَّقوا ربَّكم ـ وفي رواية: اعبدوا ربَّكم ـ وصلّوا خمسَكم وصوموا شهرَكم وأدّوا زكاةَ أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنّةَ ربّكم)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح[4].
وقال أيضاً في هذه الخطبة: ((ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا وإنَّ الشيطانَ قد أيِس من أن يُعبَد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقِرون من أعمالكم، فسيرضى به)) أخرجه الترمذي في جامعه[5].
عباد الله، إنَّ في هذه الخطبة العظيمة التي خطب بها رسول الله في هذا اليومِ العظيم من ألوان التقرير لوِحدة الأمّة والحثّ على الاستمساك بأهدابها والتنفير من المساس بها أو تعكير صفوها أو توهين عُراها بأيّ صورةٍ من الصور وتحت أيّ اسم من الأسماء ما لا مزيد عليه، فحرمةُ الدماء والأموال والأعراض مرتكزٌ عظيم وقاعدة راسخة وأساس متين لبناء وحدة الأمة القائمة على توحيد الله وتحقيقِ العبودية له وحده سبحانه دونَ سواه، ثمّ جاء تحريم القتال بين أبناء الأمّة المسلمة متلازماً مع تقرير هذه الحرمة أشدّ التلازم، مرتبطاً بها بأوثق رِباط، إذ القتال مفضٍ إلى انتهاكِ هذه الحرمة وتقويض هذه العِصمة واستباحة هذا الحِمى، فلا عجَب إذاً أن يكون محرَّماً تحريماً بالغَ التأكيد بهذه الصورة البيانية البليغة المتفرِّدة التي ازدادت وثاقةً وتأكّداً بكونها وصيةَ رسول الله لأمّته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
أيّها المسلمون، إنَّ من أظهر أسباب الحفاظ على هذه الوحدة قيامَ المرء بأداء ما افترض الله عليه، وفي الطليعة بذلُ حقّه سبحانه في توحيده بإفراده بالعبادة وعدم الإشراك به، ثمّ بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، لأنَّ امتثالَ أوامرِ الله والانتهاءَ عمَّا نهى عنه باعثٌ عظيم على معرفة العبد ما يجب عليه من الحقوق، ثمّ على العمل على صيانتها وحفظها ورعايتها حقَّ رعايتها، ومن أعظمها حقُّ الإخوة في عصمة الدماء والأموال والأعراض، وحقُّ الأمة في وحدة الصفّ واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة. ومن أسباب الحفاظ على هذه الوحدة أيضاً ـ يا عباد الله ـ طاعةُ من ولاه الله أمرَ المسلمين، إذ في السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ـ كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ سعادةُ الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم. وأما المخالفة عن هذا بترك السمع والطاعة في المعروف فلا ريبَ أنّه يفضي إلى شرّ عظيم، ويحدث من الفساد والمنكر والبلاء ما لا سبيل إلى دفعه أو الخلاص منه، وكفى به شرًّا أنّه عاملُ هدمٍ في بناء الوحدة وأصلٌ من أصول الفُرقة وداعٍ من دواعي التنازع والفشل وذهاب الريح، ولذا جاء أمرُه صلوات الله وسلامه عليه في خطبة يومِ النّحر بعبادة الله وتقواه، ثم بطاعة من ولِي أمرَ المسلمين، جاء هذا دالاً على هذه الحقيقة، مبيّناً هذا المعنى.
ثمَّ إن في استشعار المسلم معانيَ التضحية وهو يتفيّأ ظلال هذا العيدِ ويقِف في مواطن الذكريات الأولى لأبي الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام، وفي تضحية هذا الحاجّ بماله وبراحته وبإيناس أهله وولده وبإلفِ وطنه حافزٌ قوي له على التضحية بأهوائه ونزعاته، وذلك بالانتصار على أحقاده والاستعلاء على خصوماته ونزاعاته التي انساق وراءها، فزيّنت له بُغضَ من أبغض وعداء من عادى والحقدَ عليه والتربُّص به، إذ المال ربما كان أيسرَ ما يُضحَّى به لدى كثير من الناس، غيرَ أنّ التضحيةَ بالأهواء هذه التضحية المتمثلة في الانتصار على الأحقاد وتناسي الخصومات وهجر النزاعات والمشاحنات هي من أشدّ العسر الذي يتكلّفه المسلم ويجاهد نفسَه عليه في هذا العيد، لكن المجاهدة ـ أيها الإخوة ـ يسيرةٌ على من يسّرها الله عليه، وقد وعد سبحانه بكمال المعونة عليها فقال: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فلتكن أيامُ هذا العيد إذاً فرصةً للتضحية بكلّ ما تجب التضحيةُ به، وذلك بهجره والتجافي عنه، وسبباً لتنمية عواطف الخير في القلوب وتعهّدها بالرعاية تعهّدَ الزارع لزرعه حتى تؤتي أكلَها حُبًّا مطبوعاً غيرَ متكلَّف، وألفةً صادقة بين أبناء الأمة، وتعاوناً وثيقاً على البرّ والتقوى وعلى العمل بما يحبّ الربّ ويرضى، فيتحقَّق عند ذاك المثلُ الذي ضربه رسول الهدى للمودة بين المؤمنين فقال: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) أخرجه مسلم في صحيحه[6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ [الحج:27-29].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] وهو قوله : ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر)) أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098) من حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1741)، وهو أيضا عند مسلم في القسامة (1679).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1739).
[4] أخرجه أحمد (5/262)، والترمذي في الجمعة (616) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4563)، والحاكم (19، 1436)، وهو في السلسلة الصحيحة (867).
[5] أخرجه الترمذي في الفتن (2159)، وهو أيضا عند أحمد (3/498) مختصرا، وابن ماجه في المناسك (3055) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1753).
[6] أخرجه مسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
| |
|