فضل الفاتحة ومشروعية الرقية بها "
أولًا : فضل سورة الفاتحة :
1- إنها أعظم سور القرآن الكريم :
عن أبي سعيد بن المعلي رضى الله عنه قال : كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجب حتى صليت، ثم أتيته، فقال: «ما منعك أن تأتي ؟» فقلت : يا رسول الله، إني كنت أصلي، قال : «ألم يقل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ" [سورة الأنفال: 24] ثم قال : «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت : يا رسول الله، ألم تقل : «لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن»، قال : "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» ( صحيح البخاري وأبو داود والنسائي ) .
2- وسورة الفاتحة فُتح لها باب خاص، ونزل بها ملك خاص، غير جبريل عليه السلام :
عن ابن عباس رضى الله عنه قال : بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع جبريل رأسه فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف إلا أوتيته (أخرجه مسلم والنسائي وابن حبان ) .
فسورة الفاتحة نور، نزل بها ملك خاص، وفُتح لها باب خاص، وحين نزلت سمع لإبليس رنة (جاء هذا عن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير قال الهيثمي: شبيه بالمرفوع، ورجاله رجال الصحيح: مجمع الزوائد) أي : صيحة حزينة .
3- سورة الفاتحة لا يوجد مثلها في الكتب السماوية :
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب رضى الله عنه : «أتحب أن أعلمك سورة لم يُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟» قال : نعم، قال : «كيف تقرأ في الصلاة ؟» قال : فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته»(سنن الترمذي وهو في صحيح الترغيب والترهيب ) .
4- وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله سبجانه وتعالى : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين" قال الله تعالى : حمدني عبدي، وإذا قال : "الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ" قال الله سبحانه وتعالى : أثنى علي عبدي، فإذا قال : "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" قال : مجدني عبدي»، وقال مرة : «فوض إلي عبدي، فإذا قال : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال : هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال : "اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" قال : هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» (صحيح مسلم وسنن النسائي الكبرى والمسندوأبو داود والترمذي ).
5- وعن أنس رضى الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسير فنزل، ونزل رجل إلى جانبه، قال : فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟» قال : بلى ، فتلا "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين" (صحيح الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ) .
وجاء في الأثر : أُنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري، وهي : " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ "(البيهقي في الشعب) .
ومن أجل هذا الفضل الذي اختصت به سورة الفاتحة شرع الله لنا قراءتها في كل صورة من بين سور القرآن كلها، وتوقف قبول الصلاة على قراءتها، ومن لم يقرأها في الصلاة فصلاته باطلة، فضلًا عن مشروعية قراءتها في الصباح والمساء، والاستشفاء بها، ونحو ذلك .
ثانيًا : الرقية بالفاتحة : وسورة الفاتحة يُرقى بها، ويُستشفى بها من المرض، ومن العين والحمى، ولدغ الحية والعقرب، ومن كل داء وسم .
ولذا فإن من أسمائها : الشفاء والشافية والرقية والواقية والكافية .
أخرج الإمام مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : نزلنا منزلا، فأتتنا امرأة، فقالت : إن سيد الحي سليم (لدغ) فهل فيكم من راق ؟ فقام معها رجل منا، ما كنا نظنه يحسن رقية، فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ، فأعطوه غنمًا، وسقونا لبنًا، فقلنا : أكنت تحسن رقية ؟ فقال : ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب، قال : قلت : لا تحركوها (أي: الغنم) حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال : «ما كان يدريه أنها رقية ؟! اقسموا، واضربوا لي بسهم معكم» (صحيح مسلم وفي البخاري) .
وفي رواية البخاري : أن الرجل أمر له بثلاثين شاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خذوها واضربوا لي بسهم» (البخاري ومسلم) .
وفي البخاري وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» أي : على قراءته في الرقية، على ألا يمتهن الإنسان ذلك ويتخذها وسيلة للتكسب، ومعاودة الرقية وبيع الماء والزيت والعسل وغير ذلك، وعلى ألا يختلي بمن يرقيها من النساء، ولا ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، كأن ينفث مباشرة في صدر المرأة مثلًا .
وفي رواية أبي داود في حديث الرقية أن الراقي : أخذ يتفل على سيد الحي، ويقرأ : "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" أي : سورة الفاتحة، قال : فكأنما أنشط من عقال .
وفي رواية الترمذي : أن أبا سعيد هو الذي رقاه : وأنه قرأ سورة "الْحَمْدُ" سبع مرات .
وكان أبو سعيد ضمن نفر من الصحابة في سفر، وقد نزلوا هذا الحي، فأبى أهله أن يضيفوهم، فلدغ سيد هذا الحي، وبحثوا له عن راقٍ أو علاج، فأبى أبو سعيد أن يرقيه إلا بأجر؛ جزاء بخلهم وعدم استضافتهم لهم (ينظر: طرق الحديث وروايته في «جامع الأصول» (7/566) حديث رقم (5720)) .
قال تعالى : "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا" [الإسراء: 82] .
والمراد بالظالم : الكافر، فهو الذي لا ينتفع بالقرآن ولا يستفيد منه؛ لأن الله تعالى جعل هذا القرآن شفاءً ورحمة للمؤمنين لا لغيرهم، كما قال تعالى : "فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين" [البقرة: 2] .
وقال سبحانه : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" [يونس: 57] .
وقال جل شأنه : "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" [فصلت: 44].
ثالثًا : الرقية بالتسمية وحدها :
وكما تشرع الرقية بالفاتحة، فإنها تُشرع أيضًا بالبسملة وحدها .
عن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضى الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل : بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر»، وفي رواية «أعوذ بعزة الله وقدرته...» (أخرجه مسلم وابن ماجة ومالك في الموطأ والترمذي وأبو داود ) .
وفي حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من عاد مريضًا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله سبحانه وتعالى من ذلك المرض» (أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني في الدعاء والحاكم) .
رقيا جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم :
1- عن أبي سعيد رضى الله عنه : أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «يا محمد اشتكيت ؟ قال : نعم، قال : بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك» (أخرجه مسلم والترمذي وهو في جامع الأصول وأخرجه النسائي ).
2- وعن عائشة (رضي الله عنها) قالت : كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل عليه السلام ، قال : «بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين» (صحيح مسلم) .
3- وعنها (رضي الله عنها) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض : «بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا بإذن ربنا» (أخرجه البخاري ومسلم ) وفي كلام النووي الآتي شرح لهذا المعنى .
قال الحافظ ابن حجر في التح : يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتفل عند كل رقية .
ونُقل عن النووي : أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه، ثم مسح به الموضع العليل، أو الجريح .
قيل : إن التراب ينفع في تجفيف الجروح، وإيقاف الدم، قلت : والمواد الطبية تؤدي الغرض نفسه، أما النفث أو الريق : فلبركة أسماء الله الحسنى، وبركة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يُتلى من القرآن، والأدعية من الراقي، والمراد بأرضنا : أرض المدينة، والصحيح أنه يشمل كل أرض، قال القرطبي : فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام (فتح الباري) .
رابعًا : تلازم وعلاج :
تشتمل سورة الفاتحة على العبادة والاستعانة، وبالعبادة والاستعانة تتحقق السعادة الأبدية للعبد، وينجو من الأمراض المهلكة .
فأعظم أمراض القلب : الرياء والكبر، ودواء الرياء : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" ودواء الكبر "وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
يقول ابن تيمية : و "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" تدفع الرياء تدفع "وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" تدفع الكبرياء، فإذا عُوفي العبد من مرض الرياء بـ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" ومن مرض الكبر بـ "وإِيَّاكَ نَسْتَعِي" عُوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في ثوب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم، غير المغضوب عليهم : وهم أهل الفساد في القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، ولا الضالين : وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه، وحق لسورة تشتمل على هذا أن يستشفى بها من كل مرض، وصدق الله العظيم : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 57، 58] .
[center][center]
[/center][/center]