الحمد الله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه ، كم يحب ربنا تعالى ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في جلاله وعلا ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه أولي الرضا وعلى جميع من سار على نهجه فاستقام واهتدى ، أما بعد :
الحج إلى بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام وهو شعيرة من شعائره الجليلة العظام فضله الله وشرفه وأجزل المثوبة فيه حتى صح عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) ، فبين-صلوات الله وسلامه عليه- أن العبد إذا حج بيت الله الحرام فأدى لهذه العبادة حقها وحقوقها وابتعد عن الرفث والفسوق والآثام فإن الله-عز وجل- جعل جزاءه الجنة قال-صلى الله عليه وسلم- : (( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ))
فقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) فيه دليل على فضل هذه العبادة العظيمة ، وجزيل وجميل وجليل ما أعد الله من الثواب وحسن العاقبة والمآب لمن عرف حقها وحقوقها ، ولذلك خشعت قلوب السلف الصالح-رحمهم الله برحمته الواسعة- فكانوا أصدق الناس براً في حجهم وإخلاصاً في عبادتهم وتأسياً برسولهم-صلوات الله وسلامه عليه- حجوا إلى بيت الله الحرام فضربوا في حجهم المثل الأعلى فيمن بر حجه ، وكان الواحد منهم إذا لبىَّ تغير وجهه تعظيماً لله-جل جلاله- وتعظيماً لشعائره ، ولا يزال الصالحون يحجون بيت الله الحرام فما حج عبد منهم إلا تغيرت أحواله ورجع بقلب غير القلب الذي كان معه قبل حجه من عظيم ما وضع الله من البركة والخير في هذا الركن العظيم من أركان دينه ، ولا يمكن للمسلم أن يكون حجه مبروراً وسيعه مشكوراً وذنبه مغفوراً وأجره عظيماً موفوراً إلا إذا تأس برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، وحرص في هذه العبادة على أن تكون أقواله وأعماله وأن يكون ظاهره وباطنه موافقاً لهذه السنة متبعاً فيه رسول الأمة-صلوات الله وسلامه عليه- ، وقد جاء عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه لما كان في آخر حياته نادى مناديه أنه يريد الحج وكانت حجة الوداع ؛ لأنها كانت في آخر عمره ؛ ولأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ودع فيها الأمة فوقف يوم عرفة وقال-صلوات الله وسلامه عليه- : (( أيها الناس اسمعوا قولي وخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ولذلك تأثر أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- وعلموا أن رسول الأمة-صلى الله عليه وسلم- ودعهم بهذه الكلمات وأنه على وشك الرحيل من هذه الدنيا فوعت قلوبهم ، وخشعت افئدتهم وأخذوا عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هديه وسنته في حجة الوداع على أتم الوجوه وأكملها حتى حفظوا الزمان ، وحفظوا المكان ، وحفظوا الحركات ، وحفظوا الكلمات ، - فجزاهم الله عن أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء وأوفاه - .
خرج-عليه الصلاة والسلام- إلى ميقات المدينة ذي الحليفة وخرج معه الصحابة فقد امتلأت المدينة حينما علموا أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- سيحج ، وجاء عن جابر أن الناس أقبلوا من كل حدبٍ وصوب كلهم يسأل ماذا سيفعل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ؟! ولم ينتظروا أن يجتمعوا به في مكة ولكن تكلف بعضهم وأتى إلى المدينة وتحملوا مشقة الإحرام من أبعد المواقيت عن مكة كل ذلك لكي يصحبوه من أول هذه العبادة ولا يفوتهم شيء من شرف الرؤيا وشرف العلم .
وهنا وقفة يتبين بها كل مسلم أن صحبة العلماء والحرص على السير معهم والتأدب بآدابهم والتعلم منهم والاستفادة منهم أنه هدي أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- مع رسول الأمة ، وبذلك ضربوا المثل لكل من يتعلم ويحرص على العلم أن يكون أسبق الناس إليه وأن يأخذ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها . ولما خرج-عليه الصلاة والسلام- إلى ميقات ذو الحليفة وكان أبعد المواقيت عن مكة-شرفها الله- ، ولذلك قال بعض العلماء : عجبت من اختيار الله لنبيه-عليه الصلاة والسلام- فيمقات ذو الحليفة عند آخر حدود حرم المدينة فهو يخرج من حرم المدينة إلى حرمة العبادة حتى يأتي حرم مكة وهذا فضل عظيم فهو من حرم إلى حرمة فيصبح في عبادة واستشعار لحرمة ينبغي أن يصونها وأن يحافظ عليها ، فأَهَلَّ-عليه الصلاة والسلام- من ميقات ذو الحليفة وذلك بعد أن اغتسل-صلوات الله وسلامه عليه- ، وثبت في الحديث عن زيد بن ثابت-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- تجرد لإحرامه ثم اغتسل ففي الميقات من السنة أن يتجرد المحرم من ثيابه المخيطة لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )) ولقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس )) فبين-عليه الصلاة والسلام- أن المحرم يتجرد من المخيط .
ومن السنة أن يلقي التفث عن نفسه وأن يتطيب بأحسن ما يجد قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- طيبت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- : لحله قبل حرمه ، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت ، وهذا الطيب يقع قبل الدخول في النسك ، فلو اغتسال ثم تطيب ثم أحرم فلا بأس ، ولو تطيب ثم اغتسل ثم أحرم فلا بأس ، ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كان من سنته أنه صلى بذي الحليفة ثم أوجب ومن هديه أنه أوجب في مصلاه فأهل بالتوحيد : (( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك )) فالسنة في التليبة أن تكون في نفس المصلى ، ثم ركب-عليه الصلاة والسلام- ناقته القصواء وأهل - أيضاً - بالتوحيد كما ثبت في الصحيح من حديث جابر-رضي الله عنه- ثم رقى البيداء فأهل بالتوحيد ، فهنا أخذ العلماء-رحمهم الله- مسائل :
المسألة الأولى : مشروعية التليبة في الحج وهي سنة من سنن الحج التي نص بعض العلماء على وجوبها فمن حج أو اعتمر ولم يلبْ أثناء حجه وعمرته حتى أتم النسك فعليه دم ؛ لأنها واجبة لازمه ولو مرة واحدة .
المسألة الثانية : أن السنة أن تكون بعد الصلاة وقبل أن يتحول من مكانه .
المسألة الثالثة : أن السنة تجديد هذه التليبة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- لبى حينما ركب دابته ، ولبى حينما علا على النشز - وهو البيداء - فأخذ جمهور العلماء من هذا دليلاً على أن السنة في هذه التليبة أن تكون عند تغير الأحوال .
كذلك كان من هديه-عليه الصلاة والسلام- أنه أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية قال أنس-رضي الله عنه وأرضاه- فما بلغنا فَجِّ الرَّوْحاء حتى بحت أصواتنا ، وفَجَّ الرَّوْحاء يبعد عن المدينة بما يقرب من سبعين كيلو متر وهذا مسيرة اليوم الواحد فمن أول يوم بحت أصواتهم لكثرة ما لبوا استجابة لأمر النبي-صلى الله عليه وسلم- فقد قال لهم-عليه الصلاة والسلام- : (( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتليبة )) .
المسألة الرابعة : السنة في هذه التليبة للمعتمر أن يقطعها عند استلام الحجر فإذا ابتدأ الطواف في العمرة قطع التليبة فلا يشرع له أن يلبي وهو يطوف ، ولا يشرع له أن يلبي بعد الطواف ، ولا يشرع له أن يلبي أثناء سعيه فإنها تنقطع عند استلام الحجر لحديث عبدالله بن عمرو-رضي الله عنه وعن أبيه- في عمرة الجعرانة أنه كان مع النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : " فلم يزل يُلَبِّ حتى استلم الحَجَر " .
ثم إن النبي-صلى الله عليه وسلم- انطلق إلى مكة ومر بفَجِّ الرَّوْحاء فلقى قوماً فقال : من أنتم ؟ قالوا : المسلمون . قالوا : من هذا؟! قالوا : رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، فرفعت له امرأة صبيها فقالت : - يا رسول الله - ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ولك أجر)) .
ففيه دليل :
أولاً : على حرص الصحابيات على العلم والسؤال .
وثانياً : الحرص على السؤال عن المسائل النازلة المحتاج إليها .
ثالثاً : الحرص على الخير للذرية وهذا يدل على فضل الصحابيات حتى كانت الواحدة منهم لا تنتظر بلوغ صيبها بل تريد الخير له حتى قبل بلوغه .
رابعاً : مشروعية الحج من الصبي وهو ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : مميز .
القسم الثاني : غير مميز .
فالمميز من له سبع سنوات يفهم الخطاب ويحسن الجواب فهذا يُعَلِّمه والده ويُعَلِّمه قريبه الإحرام ويعلمه المناسك ويطبقها بنفسه ما دام مستطيعاً إلا إذا كان فيه خطر ومشقة عليه وغلب على ظنه أنه لو دخل في زحام الرمي أنه يهلك فيجوز أن يرمي عنه ، ولذلك بين أنس-رضي الله عنه- أنهم رموا عن الصبيان فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( نعم ولك أجر )) فيه دليل على صحة حج الصبي خلافاً للحنيفة الذين لا يقولون بذلك .
سادساً : أن هذه الحجة أجرها وثوابها لمن حجج الصبي سواءً كان من الوالدين ، أو كان من إخوانه . فيه دليل هذه الحجة إذا وقعت من الصبي فهي حجة نافلة لا تجزيء عن الفريضة فإذا بلغ وجب عليه أن يعيد الحج .
ثم انطلق-عليه الصلاة والسلام- حتى إذا أتى سرف وهو وادي قبل مكة والذي يسمى اليوم بـ ( النوارية ) حاضت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- ، وكانت عائشة-رضي الله عنها- قد أحرمت بالعمرة متمتعه فكان إحرامها بالتمتع فلما حاضت انسلت من الفراش وبكت-رضي الله عنها- فقال لها النبي-صلى الله عليه وسلم- : (( مالكِ أنفستي - أي هل حضتي - ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدم اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوافي بالبيت )) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : صحة إحرام الحائض والنفساء وطريان الحيض والنفاس على الحاجه والمعتمرة لا يوجب فساد حجها وعمرتها ، ولذلك ثبت في الصحيح أن أسماء بنت عميس-رضي الله عنها- زوج أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- نفست بمحمد بن أبي بكر الصديق بـ ( البيداء ) فلما ولدته أرسلت إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- تستفتيه هل تحرم بالحج أو لا تحرم ؟ فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( مرها فلتغتسل ثم لتهل )) فأخذ العلماء منه دليلاً على صحة إحرام الحائض والنفساء وأنها تغتسل عند نية الدخول في النسك أي إحرامها .
وإذا كانت المرأة محرمه في حجها فلا تخلوا :
إما أن تكون محرمة بالحج افراداً ، أو محرمه بالعمرة متمتعة بها ، أو تكون قارنه .
إذا كانت مفردة للحج ، أو قارنة فليس هناك إشكال ، وأما الإشكال إذا كانت متمتعه بالعمرة ؛ لأن المتمتعه بالعمرة لابد أن تأتي بالعمرة قبل الحج فحينئذٍ لو جاءها الحيض قبل الحج لا ندري هل تتمكن من أداء عمرتها أو لا ؟ فلما قال-عليه الصلاة والسلام- لعائشة-رضي الله عنها- : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) دل على أن المرأة إذا حاضت لا تؤدي عمرتها حتى تطهر من حيضها لأنه قال : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) والطواف بالبيت ركن العمرة فإذا كان لا تطوف بالبيت فمعنى ذلك أنها تنتظر حتى تطهر ، فلو قلنا لها انتظري فإنه قد يفوتها الحج وحينئذٍ يُفَصَّل في المرأة إذا حاضت وهي متمتعه فنقول :
إن كان أيام حيضها تنتهي قبل يوم عرفة أو تدرك الوقوف بعرفة حتى ولو قبل فجر العيد بما تؤدي به العمرة فحينئذٍ تنتظر حتى تطهر تبقى على عمرتها ثم تطوف وتسعى وتتحلل ثم تدرك حجها ؛ لأن الله يقول : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وأما إذا كان حيضها يستمر معها جاءت في اليوم الخامس وحيضها ثمانية أيام فقطعاً لن تطهر إلا بعد مضي يوم عرفة فحينئذٍ تنقلب إلى قارنة وتصبح قارنة لحجها مع العمرة وفي هذه الحالة القارن والمفرد لا إشكال فيه ؛ لأن المرأة إذا جاءها الحيض وهي حاجه لا تطوف طواف القدوم وتذهب إلى عرفة وتؤدي المناسك حتى تطهر فتنـزل وتطوف بالبيت ثم تسعى سعي الحج والعمرة ؛ لأن القران تدخل فيه العمرة تحت الحج فحاضت-رضي الله عنها- فقال لها النبي-صلى الله عليه وسلم- هذا القول ، فانطلقت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- صلت بمنى مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في اليوم الثامن ثم انطلقت إلى عرفات حتى طهرت فنـزلت وطافت طواف الافاضة وسعت عن حجها فأدت ما يؤدي المفرد ، ثم لما انتهى الحج قالت : - يا رسول الله - أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟! كانت تظن أنها مفرده فدل على أن الحائض المفرد لا إشكال فيها فقالت : أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟! قال : (( طوافك بالبيت )) أي بعد أن طهرت ، (( وسعيك بين الصفا والمروة )) لأنها طافت طوافاً واحداً وسعت سعياً واحداً وهذا يدل على أن القارن ليس عليه سعيان وإنما عليه سعي واحد وهو مذهب الجمهور (( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك )) فدل على أن الحائض تنتظر حتى تطهر وأنها تنقلب قارنة إذا عجزت عن اداء العمرة قبل يوم عرفة .
ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- دخل إلى مكة وكان أول ما ابتدأ به طوافه بالبيت وهذه هي سنته-عليه الصلاة والسلام- فكان إذا حج أو اعتمر لم يبدأ بشيء قبل أن يطوف بالبيت فيُحي مكة ويحُي البيت بالطواف به ، ولذلك نص العلماء على أن السنة فيمن قدم للحج والعمرة أن يبدأ أول ما يبدأ بالطواف فطاف-عليه الصلاة والسلام- السبعة الأشواط وكان من هديه-عليه الصلاة والسلام- في طوافه أن ابتدأ فاستلم الحَجَر ثم اضطبع-عليه الصلاة والسلام- ورمل الأشوط الثلاثة الأول كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وحديث جابر في صفة حجة الوداع ، ومشى الأربعة الباقية وهنا مسائل :
المسألة الأولى : الطواف بالبيت من أركان الحج فالطواف يكون ركناً ويكون واجباً ويكون سنة ، فالطواف الركن مثل طواف العمرة ، وطواف الإفاضة في الحج هذان الطوافان أركان ويبقى في ذمة الإنسان ولو إلى آخر عمره ، فلو أحرم بالعمرة ولم يطف لزمه أن يأتي إلى البيت ويطوف ولو بقي عشر سنوات ما لم يكن محصراً فحكمه معروف يتحلل تحلل المحصر ، لكن لو أنه قال : ما أريد أن أتم العمرة يلزمه أن يتم هذا الركن وأن يأتي به ؛ لأن الله يقول : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فالطواف يكون ركناً إذا كان في العمرة أو كان في الحج طواف افاضة وطواف الإفاضة وهو الذي يكون في النحر وعناه الله-عز وجل- بقوله : { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع بالنسبة للحاج ولا يجب على المعتمر في أصح قولي العلماء لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة ولأن الحج يطول عهده في داخل النسك بخلاف المعتمر فإنه لا فراق له في البيت في نسكه لأنه ليس له بعد السعي أعمال إلا أن يتحلل ؛ ولأن قياس الحج على العمرة قياس مع الفارق في هذه المسألة لأنهم استندوا فيه إلى قوله : (( واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ))
وهذا الحديث يراد به التروكات ولا يراد به الأفعال وهذه المسألة فصلنا فيها غير مرة وبينا فيها الأدلة ؛ ولأن من قال بوجوب طواف الوداع على المعتمر لم يستطيع أن يحدد متى يجب عليه فمنهم من يقول : إذا صلى صلاةً واحدة ، ومنهم من يقول : إذا صلى ثلاثة فروض ، ومنهم من يقول : إذا صلى يوماً كاملاً وهذا الاضطراب يدل على أنه ليس هناك أصل شرعي يبنى عليه بالنسبة لإيجابه على المعتمر ، وقد بينت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- الحكمة في طواف الوداع فقالت : كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً .
فطواف الوداع واجب من واجبات الحج على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً )) وهذا أمر .
المسألة الثانية : إذا عرفنا أنواع الطوفات ويكون الطواف سنة كطواف القدوم على أصح قولي العلماء-رحمهم الله- ما لم يكن في عمرة التمتع أنه أصلاً في العمرة ركن ، إذا عرفنا أنواع الطواف . فإن السؤال عن الأمور اللازمة في الطواف :
أولاً : يشترط لصحته الطهارة فلا يصح الطواف بدون طهارة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( الطواف بالبيت صلاة )) ولأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال للمرأة الحائض : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فدل على أن انتقاض الطهارة يمنع من الطواف .
ثانياً : يشترط في صحة الطواف الاستقبال أن يجعل البيت عن يساره وهي قبلة الطائف ولذلك قال : (( الطواف بالبيت صلاة )) فتشترط الطهارة لصحته ويشترط الاستقبال فلا يصح أن يطوف والبيت عن يمينه فلو عكس الطواف وجعل البيت عن يمنيه لم يصح طوافه ، ولو طاف وجعل البيت وراء ظهره مثل ما يحدث لما يأتي ويحاول في أثناء طوافه أن يمسك كبيراً في السن أو نحو ذلك بعضهم يطوف ويجعل البيت وراء ظهره ولايصح الطواف إلا إذا جعل البيت عن يساره عبادة توقيفية جاءت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة لا تصح بدونها ، ولذلك الاستقبال فيها شرط ونص عليه جمهور العلماء-رحمهم الله- .
ثالثاً : لا يصح الطواف إلا داخل المسجد الحرام قال-تعالى- : { وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } فلو طاف من خارج المسجد الحرام لم يصح ، ويصح أن يطوف في الدور الثاني ويصح أن يطوف في الدور الثالث في السطح ؛ لأن الأصل أن سطح المسجد آخذ حكم أسفله ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فجعل أسفل الأرض آخذاً حكم أعلاها ، وأعلاها آخذاً حكم أسفلها ، ولذلك إذا صلى المصلي على جبل فإنه يستقبل سمت البيت ولا يستقبل البيت وهذا في الصلاة والطواف صلاة فيصح أن يطوف في هذه المواضع ؛ لكن من جهة الصفا أن قيل إن ما بين الصفا والمروة خارج عن البيت يكون سمتاً خارجاً فيحرص على أن يكون طوافه داخل حدود المسجد .
رابعاً : يشترط أن تكون الأشواط سبعة من الحَجَر إلى الحَجَر يبتدؤها من الحَجَر ، فلو انتقص منها ولو قدماً واحداً لم يتم طوافه لابد وأن يطوف سبعة أشواط بكامل جسمه وجرمه من الحَجَر إلى الحجر .
خامساً : أن تكون هناك موالاه فيقع الشوط الثاني بعد الأول دون فاصل مؤثر ، والثالث بعد الثاني ، والرابع بعد الثالث وهكذا .
سادساً : يشترط أن يكون ساتراً لعورته فلا يصح طواف العريان ولا من مكشوف العورة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال حينما أمر أبا بكر-رضي الله عنه- أن ينادي مناديه في الحج التي سبقت حجة الوداع : (( ألا يحج بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان )) . هذه الأمور لابد من توفرها لصحة الطواف .
يسن الإضطباع وهو : أن يكشف عن منكبه الأيمن ثم يأخذ بطرفي الرداء ويرمي بهما على كتفه الأيسر تأسياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، إن تيسر له الرمل رمل ، وإن كان الزحام فمن أهل العلم من قال : يسقط عنه الهروالة ويبقى الهز للمنكب على القول بأن الرمل هز للمناكب ، بالنسبة للطواف يشرع فيه الذكر لله-عز وجل- مطلق الذكر ؛ لكن ورد الدعاء المأثور : (( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) بين الركنين وفي حديث الحاكم أن النبي-صلى الله عليه وسلم- استفتح طوافه بالتكبير حينما استلم الحَجَر ثم قال : (( اللهم ايماناً بك ووفاءً بعهدك وتصديقاً لكتابك )) هذا الحديث اختلف في صحته بعض العلماء يقول : إنه لا بأس بذكره في بداية الطواف لكن الصحيح الثابت ما ذكرناه أولاً .
أجمع العلماء على أنه لو طاف بالبيت يذكر الله-عز وجل- ويهلله ويعظمه أنه يجزيه ، ولذلك طاف ابن عمر-رضي الله عنه- وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، لا يزيد عليها-رضي الله عنه وأرضاه- ، ولو طاف يقرأ القرآن أجزأه لأنه من ذكر الله-عز وجل- ، ولذلك قال-صلى الله عليه وسلم- : (( الطواف بالبيت صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام فلا يتكلم فيه إلا بخير )) ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حرص على تقبيل الحَجَر وهذه سنة إن تيسرت فالحمد الله ، وإن لم تتيسر فإنه لا يشرع له أن يؤذي غيره ، أما لو أنه انتظر وصبر حتى يقبل فله في ذلك أصل ولا ينكر عليه إذا تحمل المشقة وكان ابن عمر-رضي الله عنه- كما ثبت عنه وصح ربما أخذ في الشوط الواحد قدر خمسمائة آية من طول انتظاره-رضي الله عنه- لفراغ الحَجَر تأسياً وحرصاً على سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- ، ولا يقال إنه أخطأ إنما أخطأ إذا آذى غيره فينبغي أن يفرق بين الأذيه وبين الحرص على السنة فإذا هو يريد أن يحرص على سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- وتطبيقها وهذا في كل الأعمال لا ينبغي أن يزهد الناس ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول : (( عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) فالحج جهاد فشخص يحرص على السنة لا ينكر عليه ؛ لكن إذا آذى غيره هو الذي ينكر لا مانع أن الشخص ينتظر حتى يفرغ من الزحام ويتحمل المشاق في اتباع سنة النبي-صلى الله عليه وسلم- فللسنة حلاوة ولذة يعرفها من يعرفها !! ولا شك أن مرضاة الله لا تنال بالتشهي والتمني ؛ ولكنها تنال بفضل الله ثم بالعمل والتطبيق والحرص عليها فإذا تيسر له ذلك فالحمد لله وإن كان فيه ضرر أو غلب على ظنه أن يؤذي فلا .
أما النساء فمزاحمتهن عند الحَجَر منكر وهن فاتنات لأنفسهن فاتنات لغيرهن فلا يشرع للمرأة أن تأتي مع وجود الرجال حتى ولو كان للنساء نصيب بل عليها أن تعصم نفسها عن الفتنة وكانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- إذا أرادت أن تطوف في نسكها أمرت أن تطفأ المصابيح فتطوف بالليل وتطوف من وراء الرجال حتى إنها ربما دخلت في أروقة المسجد بعيدة عن البيت حتىلا تفتن نفسها ولا تفتن غيرها فحري بالمؤمنة أن تعلم أن السنة للمرأة أن تحرص عن البعد عن الفتن ولو كانت هي واثقة من نفسها فإنها لا تثق في غيرها .
ثم إنه من هديه-عليه الصلاة والسلام- بعد أن فرغ من طوافه بالبيت صلى ركعتي الطواف وهي سنة لكل طواف فكل طواف يشرع أن يصلى بعده ، فصلى-عليه الصلاة والسلام- ركعتي الطواف وأتى إلى المقام وجعله بينه وبين الكعبة ثم تلا الآية : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ثم كبر فصلى-عليه الصلاة والسلام- وقرأ فيهما بسورتي الإخلاص-صلوات الله وسلامه عليه- .
ثم قام وأتى زمزم فشرب منها ثم رجع وقبل الحجر ثم انطلق-عليه الصلاة والسلام- إلى الصفا فتلا الآيات قبل أن يرقى جبل الصفا { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ثم قال : (( أبدا بما بدأ الله به )) فالسنة في هذه الآية أن تقرأ قبل البدأة بالطواف ولا يشرع تكرارها عند كل مرة يريد أن يصعد إلى الصفا لأنها قُرِأتْ لسبب وهو سبب التعليم والتوجيه ، حتى إن بعض العلماء يقول : قصد منها النبي-صلى الله عليه وسلم- تعليم الأمة ، ولذلك قال بعدها : (( أبدا بما بدأ الله به )) وفي لفظ النسائي في السنن : (( أبدؤا )) .
أما بالنسبة للسعي بين الصفا والمروة فهو ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة ، ولذلك بينت أم المؤمنين عائشة أن الله لا يتم حج من حج وعمرة من اعتمر إذا لم يسع بين الصفا والمروة ، الأصل في هذا والسنة عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في سعيه أنه رقى الصفا حتى رأى البيت فاستقبله فكبر الله-عز وجل- ثلاث تكبيرات ثم قال : (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده )) ثم دعا-عليه الصلاة والسلام- ثم رجع مرة ثانية وكبر ثلاث مرات ثم هلل المرتين ثم دعا ، ثم رجع مرة ثالثة فكبر ثلاثاً وهلل مرتين ودعا ، فأصبحت السنة أن يكبر تسع تكبيرات ، وأن يهلل ست تهليلات ، وأن يدعو ثلاث مرات ، والسنة أن يرقى حتى يرى الكعبة ، وبالنسبة للنساء فالسنة ألاَّ يرقين الجبل كما لا يرقى النساء الجبل وهذا نص عليه جمهرة العلماء ؛ لأن الواجب أن يَطَّوّفَ الإنسان بين الصفا والمروة فلو جاءت لأقل مكان ترقى به طرف الصفا أجزأها ، وهكذا بالنسبة للمروة لا يشرع لها أن تصعد وتزحام الرجال وتقع في الفتنة والغالب فيهن الضعف وقد تسقط الواحدة ونحو ذلك فهذا الأصل ، وعلى ذلك كان عمل النساء المؤمنات أنهن قال : (( ليس على النساء الرمل وليس عليهن الرقي إلى الصفا والمروة )) ثم إن النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد أن فرغ من دعائه نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي خبَّ-عليه الصلاة والسلام- وسعى واشتد سعيه كما في حديث بنت أبي تجرات-رضي الله عنها وأرضاها- أنها كانت في دار بني شيبة ورأته-عليه الصلاة والسلام- يسعى والرداء يدور على ركبته من شدة سعيه وقال وهو يسعى : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا )) وهذا أمر (( كتب )) للفريضه ، ومنه أخذ العلماء ركنية السعي في الحج والعمرة . وهذا الرمل سنة في حق الرجال دون النساء والأصل فيه أن هاجر لما جعل الله-عز وجل- تفريج كربها سعت بين الصفا والمروة في القصة المشهورة سبع مرات ، وكان بعض العلماء يقول : كأن الله-عز وجل- يُذَكِّر كل مكروب ومنكوب وذي حاجة وملهوف أن الله يجيب دعاء المضطر ؛ لأن هذه الأماكن يقصد منها التذكير بالتوحيد وتعليم الناس أن الدعاء لله وأن الحوائج تُسئل من الله وأن الله وحده هو الذي يقضي الحاجات ويفرج الكربات-جل جلاله- ، ولذلك تجدها مواطن مشتملة على الدعاء وتجد فيها مواطن لا ترد فيها الدعوة ، الدعوة فيها مستجابة كل هذا من أجل التوحيد وما جُعِلَ الحج والعمرة إلا لتوحيد الله-عز وجل- فسعى-عليه الصلاة والسلام- وخبَّ ثم إنه رقى المروة وصنع عليها مثل ما صنع على الصفا واحتسب سبعة أشواط ذهابه شوط وإيابه شوط-صلوات الله وسلامه عليه- فابتدأ بالصفا وانتهى بالمروة ، والسعي قلنا إنه ركن من أركان الحج والعمرة . ثانياً : لا تشترط له الطهارة فيجوز أن يسعى بدون طهارة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال لأم المؤمنين عائشة : (( اصنعي مايصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) فدل على أن السعي لا تشترط له الطهارة ، فلو أنه جاء في العمرة وتوضأ ثم طاف وصلى ركعتي الإحرام ثم أحدث منه خرج مثلاً الريح يجوز له أن يسعى أو امرأة جاءت فطافت وصلت الركعتين وانتهت منها ثم جاءها الحيض فإنها تكمل عمرتها لأن السعي لا تشترط له الطهارة .
ثالثاً : السعي سبعة أشواط ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- سعى سبعة أشواط الذهاب شوط والإياب شوط .
رابعاً : أن هذا السعي يشترط له الستر من العورة فلا يسعى منكشف العورة ؛ لأنه عبادة ويكون بالصفة الواردة في الترتيب بدأته بالصفا ونهايته بالمروة فلو ابتدأ بالمروة ثم مضى إلى الصفا ألغي شوط المروة واحتسب بشوط الصفا ولا يصح أن يبتدأ بسعيه من المروة فيلغى ذلك الشوط ، ويجوز في الطواف والسعي أن يؤدي هذا الركن على قدميه ويؤديه راكباً إذا وجدت الحاجة ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- طاف على بعيره وإذا كان عاجزاً لا يستطيع أن يسعى يجوز أن يسعى بالعربية ونحوها ولو كان معه صبي ويريد أن يؤدي العمرة فإنه يحمله من أجل أن يسعى إذا كان لا يستطيع السعي ، وإذا حمله فإن الطواف والسعي للمحمول لا للحامل فلا يجزيء عن اثنين لابد وأن يكون عن واحد فيسعى أولاً عن نفسه ثم يسعى عن غيره كما هو مذهب جمهور العلماء لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) وهذا عام شامل للعبادة كلها ولأجزائها .
فإذا فرغ الحاج من الطواف والسعي إن كان متمتعاً بالعمرة تحلل من عمرته ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة فيتحلل يقصر يأخذ من شعره ثم بعد ذلك يبقى إلى اليوم الثامن يوم التروية فيحرم بالحج تأسياً بالنبي-صلى الله عليه وسلم- حين كان معه الصحابة فإنهم أحرموا من مكة ، والسنة أن يقع إحرامه من مكة لا من مني ؛ لأن أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- أحرموا من مكة وهذه هي السنة أن يقع الإحرام من مكة قبل خروجهم إلى منى ؛ لأنهم غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى منى وهم محرمون ، ولا يجب عليه أن يخرج إلى حدود الحرم فهو يحرم من موضعه بمكة ولا يشترط أن يأتي إلى المسجد نفسه ، ثم إن كان قارناً أو مفرداً فإن هذا السعي يقع عن حجه وحينئذٍ لا يجب عليه السعي يوم النحر ، ولذلك سعى النبي-صلى الله عليه وسلم- سعياً واحداً وجعله لحجه وعمرته والقارن كالمفرد فيكون سعيه هذا الذي ابتدأه قبل يوم عرفة سعي الحج وحينئذٍ يجزئه عن سعي الحج والعمرة إن كان قارناً وعن سعي حجه إن كان مفرداً .
ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- خرج إلى منى في اليوم الثامن يوم التروية وسمي يوم التروية من الرَّيء لأنهم كانوا يحملون الماء فيه إلى عرفات من أجل سقي الحجاج فخرج-عليه الصلاة والسلام- فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر فبات بمنىٍ ، ومن هنا يسن للحاج أن يغدوا إلى منىٍ فيصلي فيها الظهر تأسياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، والذهاب لمنى يوم التروية سنة وليس بواجب إن تيسر فالحمد الله ، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه .
والدليل على ذلك : أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال في حديث عروة بن مضرس-رضي الله عنه- لما قال : أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( من صلى صلاتنا هذه )) يعني يوم النحر في الفجر بمزدلفة (( ووقف موقفنا هذا - بالمشعر - وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه )) فدل على أنه ليس بواجب ولا لازم ولا بركن في الحج يوم التروية .
ثم إن الصحابة-رضوان الله عليهم- غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات فخرج-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات من طريق ضب وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة وخرج بعد صلاة للفجر بمنىٍ وكان من هديهم -رضي الله عنهم- مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنهم خرجوا ذاكرين لله قال أنس-رضي الله عنه- : غدونا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات فمنا الملبي ومنا المهلل ومنا المكبر فلم يعب أحدٌ منا على الآخر ، فلما أتى-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات نزل بنمرة ، ونمرة هو : المنْبَسط الفسيح الذي بين حدود الحرم ووادي عرنة وهو يقرب من خمسائه متر نزل فيه-عليه الصلاة والسلام- فلم يدخل إلى عرفات قبل زوال الشمس ولا قبل صلاة الظهر ؛ وإنما نزل قبلها فضربت له القبه-صلوات الله وسلامه عليه- في هذا الموضع فنـزل فيه ، ثم إنه-عليه الصلاة والسلام- لما زالت الشمس حرك ناقته القصواء-صلوات الله وسلامه عليه- وأتى وادي عرنة وخطب الناس خطبته المشهورة التي تعرف بخطبة حجة الوداع وقد جمع فيها-صلوات الله وسلامه عليه- مقاصد الإسلام وكانت من أعظم المشاهد وأجلها لأن الله أقر فيها عين رسوله-صلى الله عليه وسلم- فقد اجتمع في هذا اليوم قال بعض العلماء : إنهم كانوا - أي الصحابة - قرابة مائة وعشرين ألف صحابي على القول بأنهم بلغوا هذا المبلغ ، وكان يوماً عظيماً لأن الناس كان كثير منهم حديث العهد بالإسلام وحديث العهد بشرائع الإسلام وهو بالأمس يُكَذَّب في مكة ويُؤْذَى أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- ، وإذ برب العزة والجلال الذي لا يُضَيِّع الحق وأهله والذي يعز جنده وينجز وعده ويصدق عبده إذا به يقر عينه بذلك المشهد العظيم فتصغي له الناس صغاراً وكباراً شباباً وشيباً وأطفالاً كلهم ينظرون إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وفتح الله له قلوبهم وفتح الله له أسماعهم وكانت خطبة جامعة نافعة أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام ، وقف فيها-عليه الصلاة والسلام- شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ،
وبين فيها المقاصد العظيمة ونبه المسلمين على أمور من الركائز التي ينبغي العناية بها وينبغي على كل داعية وكل معلم أن يعتني بها فأحياء ما اندرس من معالم الحنيفية وطمس معالم الشرك والوثنية والجاهلية ، وأذهب النعرات والعصيبة ، وبين الحلال والحرام فأحل حلال الله وحرم حرام الله ، وكان مما ذَكرَ الناس به مسألة الأُخوة واستشعار المسلم بحق أخيه المسلم ، وكان هذا من أجمع ما اعتنى به-عليه الصلاة والسلام- في ذلك اليوم لأنه سألهم أي يوم هذا ، وسألهم عن الزمان وسألهم عن المكان فلما أقروا بحرمته له-عليه الصلاة والسلام-
قال : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد )) وكان يرفع أصبعه-عليه الصلاة والسلام- ثم ينكتها على الصحابة (( اللهم فأشهد )) أي اللهم فاشهد أني بلغت الرسالة وأديت الأمانة وأني ذَكَّرْت كل مسلم بحق أخيه المسلم ، وذكرت كل مسلم أن لا يستهين بعرض أخيه المسلم ، وألا يستهين بدمه وألا يستهين بماله ، ومن نظر إلى مظالم المسلمين مع بعضهم يجدها لا تخرج عن هذه الثلاثة ، إما اعتداء على دمه ، أو اعتداء على ماله ، أو اعتداء على عرضه ، ومن سلم من حقوق الناس في هذه الثلاثة فقد سلم من شر عظيم وبلاء وخيم ولقي الله خفيف الحمل من مظالم خلقه فَذكّر - صلوات الله وسلامه عليه- بحق المسلم على أخيه المسلم وأين الناس من استشعار هذا ؟! يقف في هذا الموقف الذي كان الموقف الوحيد الفريد في عمره-عليه الصلاة والسلام- الذي ما اجتمعت له الأمة ويركز على الإخوة ، ويركز على المعاني الإسلامية الهادفة التي هي سر عظمة هذه الأمة وقوتها وهيبتها وعزتها فكل من يشتت المسلمين فشتت الله شمله وفرق جمعه ؛ لأنه يناقض هذا الأصل وهذا المنهج ، ولذلك كل داعية وكل عالم يحرص على غرس المحبة بين المسلمين وتأليف قلوبهم وجمعها على كتاب الله وسنة النبي-صلى الله عليه وسلم- فإنه يأتسي برسول الأمة ويحرص على ما حرص عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم (( أيها الناس )) خاطبهم كلهم وأعذر إلى الله وكان يقول : (( إلا هل بلغت )) أي إني بلغتكم حتى إنه-عليه الصلاة والسلام- كان يرفع أصبعه إلى السماء ويقول : (( اللهم )) ينادي ربه (( اللهم فاشهد )) أي يا الله أشهد عليهم أني بلغتهم أن دمائهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام ثم قال-عليه الصلاة والسلام- : (( ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) وبين-عليه الصلاة والسلام- عظيم الحرمات وكان مما بين حرمته حرمة الربا وقال : (( إن الربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبدالمطلب )) فرسم المنهج للداعية والمعلم والموجه أن يبدأ بنفسه قبل أن يبدأ بالناس وأن يبدأ بقرابته بشرط أن يكون القرابة مستجيبين له فلا عتب على الداعية إذا نصح القريب ولم ينتصح وأمره فلم يأتمر ونهاه فلم ينـزجر . ثم إن رسول الأمة-صلى الله عليه وسلم- أمر بلالاً فأذن ثم أمره فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم صلى بعدها العصر جمع تقديم .
هنا وقفة : وهي أن المقصود من هذا اليوم التفرغ للدعاء وهو يوم عرفة .
ثانياً : أن فضل هذا اليوم وأفضل ما فيه آخره لأن الموقف يبدأ من بعد الصلاة لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- ما دخل عرفة إلا بعد صلاة الظهر والعصر ، ولذلك يحرص المسلم على أنه يهيء نفسه قبل الصلاة بحيث لا يأتي بعد الصلاة إلا وهو متفرغ تماماً للذكر والدعاء ، وخليق بكل مسلم يأتسي برسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن ينظر في هديه حرك دابته القصواء-صلوات الله وسلامه عليه- ودخل إلى عرفات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه ثم رفع يديه وما زال يتضرع ويدعو حتى غابت عليه الشمس-صلوات الله وسلامه عليه- صلى وفريضة تقدم على وقتها من أجل أن يتفرغ للدعاء ؛ لأن شرف هذا اليوم في الدعاء (( خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة ))
الإنسان لما يأتي إلى هذا اليوم يستشعر أولاً ما هي منـزلة هذا اليوم ، وماهي مكانته وما الذي ورد من النصوص في فضله وشرفه ، ولو لما يكن فيها إلا قول النبي-صلى الله عليه وسلم- : (( خير يوم طلعت عليه الشمس )) فما طلعت الشمس على يوم خيرٍ عند الله من ذلك اليوم (( وما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من يوم عرفة )) فلربما دخل فيه المسيؤن والظالمون وخرجوا منه كيوم ولدتهم أمهاتهم ؟! ولربما دخل العبد وهو خاشع القلب متخشع لربه متذلل متبذل يرجو رحمة الله ويخشى عذاب الله مؤمناً صادقاً دعا ربه من كل قلبه فأوجب الله له الجنة وحرمه على النار (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة )) فهو يوم العتق من النار وكأن الإنسان يأتي إلى يوم عرفة كأن لسان حاله يقول : اللهم لا تحُلْ بيني وبين رحمتك بذنبي ، فيأتي وهو منكسر القلب وثق ثقةً تامة أن أسعد لحظة في كل وقت وفي كل حين هي اللحظة التي تخلو فيها بربك ، وأن الله أعز من أن تضيع هذه الساعات مع زيد وعمرو ، وأعز من أن تشتغل بالرفع والوضع ضعوا هذا وارفعوا وافعلوا كذا وأعز من أن تشتغل بأشياء تلهيك عن تجارة لن تبور فيها وعن سعادة ساعات اختارها الله من العام كله ولربما تكون هي ساعات العمر كلها بحيث أن الشخص ما يحج إلا مرة واحدة.
فما بال الإنسان يضيعه مع زيد وعمرو ؟! تأتي وأنت تحس أن كل ثانية فضلاً عن دقيقة فضل عن ساعة ينبغي أن تستنفذ في ذكر الله وشكره ، وأفضل ما يقال في ذلك اليوم أفضل ما يلهج به لسانك أن تكثر من قول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير ، كان بعض العلماء يوصي ويقول : عجبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة )) ثم قال بعده : (( وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )) وأعرف من بعض مشايخنا-رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَمَع وصلى تضرع ولايزيد عن هذه الكلمة !! ما يزيد عن قوله لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، من عظمها وفضلها فهي أثقل كلمة ولا يثقل مع اسم الله شيء ولقي الله عبد له تسع وتسعون سجل كل سجل منها مد البصر من الذنوب والخطايا وجاء ببطاقة فيها لا إله إلا الله فطاشت بتلك السجلات كلها ولا يثقل مع اسم الله شيء ، فيحرص الإنسان على أنه بعد الصلاة لا يشتغل بشيء إلا ذكر الله-عز وجل- يرتب أموره ويرتب أحواله ويوصي من حوله ألاَّ يشغله عن ذكر الله والأفضل أن يأخذ بالسنن في الدعاء من أن يكون على أتم الأحوال وأكملها متطهراً مستقبل القبلة حاضر القلب خاشعاً يبكي على ذنبه .