الحمد لله العليِّ الأعلى ، الولي المولى ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد على ما أخذ وأعطى ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليك يا علم الهدى .....
أمـا بعد :
فإن هذه الحياة دارُ همٍ وغم وكدر ، لا تخلوا من مصائِبَ ومِحن وابتلاءات ، والمرءُ فيها مُعرضٌ لنكبات لا تذهبُ عنه إلا بذهابه عن هذه الحياة ، والنفسُ لا تزكوا إلا بالتحميص ، والبلايا تُظهر الرجال كمـا قال الإمام ابن الجوزي : ((من أراد أن تدوم لهة السلام والعافية من غير بلاء فما عرفَ التكليف ولا أدرك التسليم ، ولا بد من حصول الألم ، كل نفسٍ سواء آمنت أو كفرت ولا يطمع أحد أن يُخلص من المحنة والألم ، والمرء يتقلب في زمانه في تحول النعم واستقبال المحن))
والفراق بين الأقارب والأحباب والأخلاء والأصحاب من أعظم هذه الشدائد والمِحن ، وأعظـم مصيبة الفراق ، المرض وحلوله بالإنسان ، وأعظم من هذا كله الفراق الأكبر وهو الموت كما قال عبد الحق الاشبيلي (1) :
قـالوا صِف الموت يـا هذا وشدته *** فقلت وامتد حتى عندها الصوت
يكفيكم منه أن النـاس إن وصفوا *** أمراً يرَّوعهم قالوا هو الموت (2)
ويكون الفراقُ أكثرُ ألماً وأشدُّ مرارةً إذا كان المُفارِقُ أقربُ إلى المفارق كالإبن والأب والأم والأخ والصديق ، وربما يكونُ أشدُّ ألماً وأكثرُ حزناً وأعظم فجيعةً إذا كان المفارق من أهل العلم والصلاح ومن دعاة العقيدة الصحيحة ومن المعنيين بالدليل والأثر ومن الحرصين على الجماعة ومن المعروفين بالاعتدال والوسطية كما قال أيوب السختياني : ((إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضواً من أعضائي)) (4)
وصدق فيما قال ، لِما في موتهم من ذهاب العلم وخراب الدنيا ، فموت العلماء والصالحين ليس كموت سائر الناس .
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ *** ولا فرس يموتُ ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقـد شهمٍ *** يموتُ لموتـهِ خلقٌ كثير (5)
ولكـن من عرَفَ حقيقة الفراق ، وأنه لابُدَّ منه ، فقد حلَّ بمن هو خيرٌ منه ، أيقنَ أن الفزع والجزع لا يردُّ فائناً ولا يجلبُ غائباً بل يُغضِبُ المولى سبحانه وتعالى ، ويُشمِتُ الأعداء ، فمن عرَفَ هذه الحقيقة فعليه أنْ يصبِر ويتأسى بما فعل السلف الأولون حينما كان يبلُغَهُم مثلُ هذا الخبر كما روى عن بعضِهم أنه جاءه رجلٌ وهو يأكل طعاماً فقال له : قد مات أخوك فقال : أُقعد وكُّل فقد علمت ، فقال له : ومن أعلمك ومـا سبقني أحدٌ إليك ، فقال : قوله تعالى ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ))
اللـه أكبر ، أي قلبٍ هذا الذي لم يجْزع لمثل هذا الخبر ، فليس في الدنيا كما يُقال مصيبةً أعظم من مصيبة الموت ، ولكنه والله قلبٌ لطالما انشغل بذكر الموت ومن انشغل قلبه بذكر الموت استعد له كما روي عن سعيد بن الجبير رحمه الله أنه قال : ((لو فارق ذكر الموت قلبي خشيتُ أن يفسَدَ علي)) (6)
فعلى المرء حينما يأتيه خبرُ وفاة قريبٍ أو صديقٍ أو حبيب وربما أتاه الخبر بغتة فعليه أن لا يفعل كما يفعله الجهال من لطمٍ للخدود وشقٍ للجيوب وكأنه لم يُصب بمُصِيةٍ إلا هو ، ويعترضُ على قضاءِ الله وقدره .
بل عليه أن يصبر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليُصيبه .
روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمى رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول :إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها)) (7)
قال ابن مسعود : ((ما منكم إلا ضيف ، وماله عارية ، والضيف مرتحل ، والعارية مؤداة إلى أهلها)) ( وما المال والأهلون إلا ودائع *** ولا بُّد من يومٍ تُردُّ الودائِعُ (9)
عن عطاء بن الرباح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((يا أيها الناس أي ما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتصبر بمصيبته بي فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)) (10)
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب)) (11)
وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : قبضتم ولد عبدي ، فيقولون : نعم ، فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ، فيقولون : نعم ، فيقول : فماذا فعل عبدي ، فيقولون : حَمِدَكَ واسترْجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)) (12)
ومن فَقَّدَ عزيزاً عليه فليذكر قوله صلى الله عليه وسلم : ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (13)
وعن أبي سلمى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((ما أثقلهُن في الميزان)) وذكر منهن ((والولد الصالح يُتوفى للمرء المسلم فيحتسبه)) (14)
هكذا يُعالج المرءُ نفسه ويُسلي قلبه بأن ما قدره الله كائنٌ لا محالة ، وأنه لا يرد شيء من قضاء الله وقدره ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))
وانظر أخي المسلم في سير السلف إن كنت مُتبعاً لهم كيف كان حالهم عند نزول المحن والمصائب بهم ، وكيف كان صبرهم واحتسابهم ، وإليك طرفاً من أخبارهم فإن في ذكرهم تسلية للهموم وتفريج للغموم ...
عن كعب قال : ((من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا)) (15)
وعن ثابت قال : لما مات عبد الله بن مُطرَّف خرج أبوه (مُطرَّف) على قومه في ثيابٍ حسنة وقد ادهن ، فغضبوا وقالوا له : يموتُ ولدك عبد الله ثم تخرجُ في ثيابٍ مثل هذه مدهناً .
فقال لهم : أفأستكينُ لها (يعني مصيبة موت ابنه) ، لقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال كُلُّ واحدةٍ منهن خيرٌ من الدنيا وأحبُ إليَّ من الدنيا وما فيها ... قال الله : ((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) ، ((أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذه الأولى ، ((وَرَحْمَةٌ)) هذه الثانية ، ((وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) هذه الثالثة (16)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أُخبِرَ بوفاة ابنةٍ له وهو في سفر فاسترجع وقال : عورة سترها الله ، ومؤنه كفاها الله ، وأجرٌ ساقه الله تعالى ، ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال : قد صنعنا ما أمرنا الله تعالى به ، قال تعالى ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة)) (17)
المرءُ يُصابُ مصائبٌ لا تنقضي *** حتى يُوارى جسمَهُ في قبرهِ
فمؤجلٌ يلقى الردى في أهلـه *** ومعجلٍ يُوارى جسمه في قبره (18)
وهذا عروة بن الزبير وكان عابداً تقياً ، روي أنه وقعت آكلة في رجله وهو في سفر فدُعِيَ له فَقَطَعَ بنصفِ ساقه فما سُمع منه حِسٌ من صبره ، ثم جاءه الخبر بوفاة ابنه محمد وطأته بغلة ، فلم يُسمع منه في ذلك كله جزع ، فلما رجَعَ قال : ((لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)) ، اللهم كان لي بنون سبعةٌ فأخذتَ واحداً وأبقيتَ لي ستةٌ وكان لي أطراف أربعةٌ فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة ولئن ابتليت فقد عافيت ، ولئن أخذت فقد أبقيت (19)
تبكي على الدنيا وما من مِعشَرٍ *** جمعتهُمُ الدنيا فلم يتفرقوا
ألا وأعلمـوا رحمكم الله أنه من كان باكياً فليبكي على نفسه ، كما روي عن أحد السلف أنه لما احتضر بكت امرأته فقال لها ما يُبكيك ؟ فقالت : عليك أبكي ، فقال : إن كنت باكية فابكي على نفسك ، أما أنا فقد بكيت على هذا اليوم أكثر من أربعين سنة .
وما رحيل هؤلاء الأحبة إلا إنذارٌ لنا أننا عن الدنيا راحلون وعم قليلٌ عنها زائلون .
روي عن جابر أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن : تبكي !! أولم تَنهى عن البكاء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لا ، ولكن نُهيتُ عن النوح والغناء ، عن صوتين أحمقين فاجرين وعن خمشٍ الوجوه وشق الجيوب ورنة الشيطان ، لكـن هذه رحمة جعلها الله في قلوب الرحماء ، ومن لا يَرَّحم لا يُرحم (20)
ثم قال : إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون (21)
وروي عن ابن المبارك أنه مات ولدٌ له فقال : ((للعاقل أن يفعل في أول يومٌ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام)) (22)
هكذا يكون الصبر على المصائب والشدائد ، قال علقمة في قوله تعالى ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) قال : هي المُصيبة تُصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيُسلم لها ويرضى(23)
لاشيء فيما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله ويؤدي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه *** والخلد قد حاولتْ عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له *** الإنس والجنّ فيما بينها تردُ
أين الملوك التي كانت نوافلها *** من كل أوب إليها وافدٌ يفد
حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ *** لا بدّ من رده يوماً كما وردوا
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيــم ،،،
---------------------------------------------
الهوامش :
([1]) هـو العالم الكبير الشهير صاحب التأليف أبو محمد عبد الحق الاشبيلي من علماء الأندلس .
(2) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (4/315) طبعـة دار صادر .
(3) صفة الصفوة (2/175) طبعـة دار الحديث .
(4) صفة الصفوة (2/175) طبعـة دار الحديث .
(5) أمالي القالي (1/129) طبعة دار الكتب العلمية .
(6) أورده أبو نعيم الأصفهاني في الحلية (2/208) طبعة دار الكتاب العربي ، وأحمد في الزهد (ص430) (2210) طبعة مكتبة الصفا .
(7) صحيح ... رواه مسلم في صحيحه (7/4) (918) كتاب الجنائز طبعـة مكتبة الصفا ، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/256) طبعـة دار الفجر ، وابن تيمية في الكلم الطيب (ص128) (142) طبعـة مكتبة المعارف .
( أورده أبو نعيم الأصفهاني في الحلية (1/69) طبعـة دار الكتاب العربي . (9) محاضرات الأدباء لأبو قاسم المفضل الأصفهاني ( 1/484 ) طبعـة دار القلم .
(10) صحيح ... صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3217) طبعـة مكتبة المعارف .
(11) صحيح ... صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1106) طبعـة مكتبة المعارف .
(12) حسن ... أورده الدمياطي في المتجر الرابح (1/128) (469) طبعـة دار الحديث ، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/257) طبعة دار الفجر ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (795) طبعـة المكتب الإسلامي .
(13) صحيح ... خرجه البخاري في صحيحه (3/230) (6424) كتاب الرقاق طبعـة مكتبة الصفا .
(14) صحيح ... أورده الحافظ الدمياطي في المتجر الرابح (1/138) (506) طبعـة دار الحديث ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1204) طبعة مكتبة المعارف .
(15) أورده أبو نعيم الأصفهاني في الحلية (2/474) طبعـة دار الكتاب العربي .
(16) أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (2/132) طبعـة دار الحديث ، وفي الثبات عند الممات (ص26) طبعـة دار المنهاج ، وأحمد في الزهد (ص299) (1389) طبعـة مكتبة الصفا .
(17) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (3/236) طبعـة دار المعرفة ، والسمرقندي في تنبيه الغافلين (ص183) طبعـة مكتبة الصفا .
(18) يتيمة الدهر للثعالبي (1/17) طبعة دار الكتب العلمية .
(19) أورده أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء (1/288) طبعـة دار الكتاب العربي ، وابن الجوزي في صفة الصفوة (1/349) طبعـة دار الحديث ، والذهبي في الكبائر (ص198) طبعـة دار ابن الهيثم .
(20) صحيح ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/266) طبعـة دار الفكر .
(21) صحيح ... أنظر أحكام الجنائز للألباني (ص32) طبعة مكتبة المعارف .
(22) الكبائر للإمام الذهبي (ص72) طبعة دار الندوة ، والزواجر عن اقتراف الكبائر لإبن حجر الهيتمي (1/424) طبعة المكتبة العصرية ، والسمرقندي في تنبيه الغافلين (ص185) طبعة مكتبة الصفا .
(23) تفسير القرآن العظيم لإبن كثير (8/138) طبعـة دار طيبة ، والثبات عند الممات لإبن الجوزي (ص26) طبعـة دار المنهاج .