بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
نعم، لقد فشل الانقلاب؛ فشل وبقي إعلان الفشل، ثم انسحاب الأعداء بأقل الخسائر وعودة الجرذان إلى الجحور. ولكن كيف كان ذلك؟
لقد كان بإرادة شعب حر أبيّ خرج من الأسْر أخيراً وحطم الأغلال، شعب عرف الحرية والحياة، فقرر أن لا يعود إلى الذل والاستعباد ولو رابط في الميادين ألفَ يوم ولو قدّم ألفَ ألفِ شهيد. هذه الحقيقة لم يدركها الطغاة والمستبدون -ولن يفعلوا- لأنهم لا يعرفون معنى الحرية والكرامة، لأن عقولهم البلهاء لم تدرك -ولن تدرك- أن الحرية أغلى من الحياة، ولأنها لم تدرك -ولن تدرك- أن الذي استنشق نسيم الحرية ساعةً لن يفرّط بها حتى آخر ساعة في الحياة.
الانقلاب فشل لأن ملايين الأحرار في طول مصر وعرضها قالوا: "الموت ولا المذلة". إن لم يكونوا قالوها بالكلمات -كما فعل إخوانهم السوريون- فقد قالوها بالأفعال، ولم يهمسوا بها في غرف مُغَلّقة الأبواب، بل أعلنوها مدويّة في الشوارع والطرقات والميادين والساحات.
فشل الانقلاب لأنه اعتمد على رَعاع وغوغاء لا مبدأ لهم يعيشون من أجله ويموتون في سبيله، ولأن الذين وقفوا في وجهه أصحابُ مبدأ وعقيدة، ولأنهم يدافعون عن مبادئهم فيحيَون عليها أو يموتون في سبيلها.
فرق كبير بين من يخرج دفاعاً عن المبدأ وبين من يخرج من أجل المال. أنا كنت هناك قبل أشهر قليلة، شاهدت في بعض أهم شوارع القاهرة مظاهرات "حاشدة" لمعارضي مرسي لم يبلغ عدد المشاركين فيها مئة، وشاهدت أمس صور الأنهار البشرية المتدفقة في شوارع القاهرة وكل الأقاليم تأييداً له ودفاعاً عن الحرية المَوؤودة. ذهبت يومها إلى المنطقة المحيطة بقصر الاتحادية ودخلت وسط مظاهرات المتمردين، أردت أن أبني فهمي على المشاهدة لا على السماع، فماذا وجدت؟
سألت عشرات وعشرات من الغوغاء الذين كانوا يقطعون الطرق ويوقدون فيها النار، فوجدت أكثرهم من الجهلة الأميين، ووجدت أنهم يحفظون جملة قصيرة لا يَقْدرون على غيرها، فإني أسألهم: لماذا تفعلون ما تفعلون؟ فيجيب كل واحد منهم: ليمشي مرسي. وأسألهم: لماذا تريدونه أن يمشي؟ فلا يختلف جواب أحد عن جواب أحد: "لأنه مش كويّس". وأستمر في الحوار: لماذا هو "مش كويّس"؟ فأصل إلى الجدار الذي ينتهي عنده الطريق. الجواب: لأنه مش كويّس؟ طيب لماذا هو مش كويس؟ لأنه مش كويس! مساكين، لم يحفظّوهم السطر التالي فعلقت الأسطوانة عند الجملة الأولى.
على أنني وجدت فيهم قلّة قليلة من العقلاء المثقفين، أفراداً معدودين يقودون الغوغاء، شبّاناً وفتيات، وهؤلاء أيضاً سألتهم وناقشتهم، فوجدت أنك لو عصرت الواحد منهم لم يقطر إلا خبثاً ولؤماً وسفاهة، لا يبحثون عن حق ولا يريدون إلا التخريب، ولو أني ناقشت الواحد منهم ألف عام لم أخرج منه بطائل.
في تلك الليلة قابلت أحد الأصدقاء في القاهرة. لمّا وصلنا إلى عمارته وقف مع البواب هُنَيهة يسأله يقول: أين كنت يا فلان؟ أما كلفتك بكذا وكذا؟ قال: أعتذر منك يا بيه، كنت في المظاهرة. قال له: أنت أحمق، تترك رزقك وتذهب إلى مظاهرة لا ناقةَ لك فيها ولا جمل؟ قال: لا يا بيه، لقد دفعوا لي أكثر؛ كسبت مئتي جنيه!
لولا أني شهدت الحادثة لما رويتها، ثم يسألني سائل تعليقاً على مقالتي السابقة: لماذا تصادر حق ثلاثة ملايين مصري لا يريدون مرسي؟ أقول له: لأنهم رعاع مرتزقة خرجوا من أجل المال، وأنت تعلم من أين جاء هذا المال لا بارك الله فيه ولا في دافعيه ولا قابضيه. أمّا أنت فأسألك: لماذا تصادر حرية خمسين مليون مصري وتحاصر حقهم في الاختيار؟
نعم، شاهدت الأنهار البشرية التي تدفقت في شوارع مصر، وشاهدت البحر البشري الزخّار في كل ميدان من ميادين الحرية في طول مصر وعرضها، وشاهدت حُثالات يَسْحلون المتدينين ويَنْتفون لِحَى الملتحين وينزعون الحجاب عن رؤوس المحجبات في الطرقات، ورأيتهم في ميادين العار بضعَ مئات لا يبلغون معشار معشار الأحرار في ميادين المجد والفخار، فعلمت أن الانقلاب فاشل فاشل ولو وقفت وراءه دول الأرض كلها، وأن الباطل زائل وأن الحق إلى ظهور وانتصار بإذن الله الواحد القهّار.