الحند لله الواحد الأحد الفرد الصمد والصلاة والسلام على من ارسله الله رحمة للعالمين وبعد
قال صلى الله عليه وسلم: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء» [أخرجه الترمذي].
يُهيئ لها الله الأسباب والمقدمات للوصول إلى المراد، فمن الناس من يقاد إلى الحق بالعلم والعمل أو بالعقل والمنطق والثقافة والحوار والنقاش أو بالتقوى والورع أو بالحجة والبرهان والدليل الشرعي؛ ومنهم من يقاد إلى الحق ببطنه، فكما تهدي الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة فكذلك أصناف من البشر يحتاجون المدخل المناسب والوقت الملائم حتى تستأنس بالإيمان وأهله والحق وأصحابه وتهش لهم.
وعلى الداعية إلى الله مراعاة الظرف والوقت والمدخل المناسب للالتقاء القلبي النفسي العاطفي مع المدعو والمنافس، والمعاند والنفعي، والمغرض والسطحي، والقريب والبعيد والغريب، والمتعلم والأمي، والسياسي والدعوي، والعالم والمتعلم، والطالب والصانع والمزارع وغيرهم من أصناف البشر الذين هم تجارتنا للوصول إلى الله: «لَأن يُهدى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَمِ» [أخرجه البخاري].
فكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، فبعد غزوة حنين أعطى رسول الله عطاء من لا يخشى الفقر لأقوام يتألف بها قلوبهم فوجد الأنصار في نفوسهم شيئاً، فأمر رسول الله بجمعهم دون غيرهم وحدثهم حديث المحب المقرب، والصديق الحنون، والأب المشفق، والأخ المنصف، والمربي العارف برقة قلوبهم، فعرفهم فضلهم وسبقهم وجهادهم وبذلهم وعطائهم وكان مما قال: «أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعباً وسلكتَ الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» [أخرجه أحمد].
وهذا الذي جاء طالباً إذناً بالزنا من معلم البشرية الطهر والعفاف فأدناه منه صلى الله عليه وسلم قائلاً: «أتحبه لأمك؟» قال: لاوالله جعلني الله فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لاوالله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لاوالله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم» -وذكر العمة والخالة- «ولا الناس يحبونه لعماتهم ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، فوضع يده -عليه السلام- عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه»، فلم يكن شيء أبغض إليه منه ولم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" [رواه أحمد، وصحّحه الأرناؤوط والألباني].
وقد أمرنا ربنا جل وعلا بالحوار والمناقشة بالتي هي أحسن مع أهل الكتب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
فكيف مع بني قومنا وملتنا وعشيرتنا، فكيف مع الأهل والولد والجار والرفيق وأولي الأرحام، ولا نخشى الحوار والنقاش فالحق واضح ظاهر والحجة دامغة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:25].
مع احترام عقل المجادل وسِنّه وتاريخه واسمه وكنيته، وإعطائه حقه في الحديث والوقت، والإنصات له ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين حاوره عتبه بن ربيعة عارضاً عليه المال والزعامة والملك والزواج أو العلاج مقابل ترك الدعوة فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أقد فرغتَ يا أبا الوليد؟»، قال نعم. قال:«فاسمع مني» (سيرة ابن هشام).
بمثل هذا نملك القلوب ونأسرها ونغزوها فاتحين: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].
بل على الداعية أن يغفر ويصفح ويسامح في حقه وعرضه وماله؛ تأليفاً للقلوب وطلباً للأجر الأخروي وترفعاً وعفةً لما في أيدي الناس، وطمعاً فيما عند الله وابتغاء مرضاته.