بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة النبوية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائلُ سبحانه :{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا {40} التوبة وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائلَ
إن الهجرة شأنها شديد ) متفق عليه . أما بعد:
فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة ، يدعو قومه إلى عبادة الله وحده ، وترك ما كانوا عليه ، وآباءهم ، من عبادة الأصنام ، فاستجاب له قلة قليلة من السابقين الأولين ، ولقوا في ذات الله من الأذى والعنت ما الله به عليم ، فندبهم للهجرة إلى الحبشة ، ليأمنوا على أنفسهم ، وعلى دينهم من الفتن . وبقي هو ونفر معه، صابراً على أذى قريش ، حتى بلغ السيل الزبى بموت عمه أبي طالب ، الذي كان يحميه ، وزوجه خديجة ، رضي الله عنها ، التي كانت تسليه . فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب في موسم الحج ، حتى شرح الله له صدور طائفة من الأوس والخزرج ، فآمنوا به ، وبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية ، على أن يمنعوه مما يمنعون منه أزرهم ونساءهم ، إن هو قدم عليهم ، ودعوه للهجرة إليهم ، ووعدوه بالنصرة والطاعة ، ووعدهم الجنة ، فقال قائلهم : ( ربح البيع . لا نقيل ولا نستقيل ) .
وصار المستضعفون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حاشا عمر ، يتسللون مثنى وفرادى إلى يثرب ، كما كان اسمها في الجاهلية . وأحست قريش بخطورة المرحلة المقبلة ، وأن يوشكَ أن يهاجر محمد إلى أصحابه وعصبته المجتمعين في يثرب الواقعة على طريق تجارتهم إلى الشام ، فتكونَ مصيبة الدهر ، والفتق الذي لا يرتق . فأجمعوا أمرهم وشركاءهم على قتله .
روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي ، عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال، وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس: أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل. فدخل معهم. فقال: انظروا في شأن هذا الرجل! والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء؛ زهير، والنابغة، إنما هو كأحدهم. قال فصرخ عدو الله، الشيخ النجدي، فقال: والله ما هذا لكم برأي، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكُن أن يثبوا عليه، حتى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قالوا: صدق الشيخ، فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فانه إذا خرج لن يضركم ما صنع، وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه، واسترحتم، وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي. ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرض العرب، ليجتمعُن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم. قالوا:صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا. قال: فقال أبو جهل، لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا، وسيطا، نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فاذا قتلوه،تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا، وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم.فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة. وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكر نعمه عليه، وبلاءه عنده (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30) .وقد رواها ابن إسحاق بسند فيه مجهول، وبسند آخر مرسل، ورواها ابن سعد، عبدالرزاق. وحسن ابن كثير إسنادها .
ففي كل عام تمر ذكرى عطرة ، فيها درس وعبرة ، ومتعة وفكرة . إنها قصة الهجرة . تلكم الحادثة التاريخية التي صارت نقطة تحول ، ومفرق طريق في حياة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وكان لها ما بعدها ، فلا عجب أن غدت تلك الحادثة معلماً بارزاً في تاريخ الإسلام ، كما قال سهل بن سعد ، رضي الله عنه : ( ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا من وفاته . ما عدوا إلا من مقدمه المدينه ) أي حين أرخوا التاريخ . رواه البخاري .
قال الحاكم : ( تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين )
وها نحن اليوم في شهر الهجرة ، شهر ربيع الأول ، نستروح عبق تلك الذكرى الخالدة ، بعد ألفِ وأربعمائةٍ وخمسةٍ وعشرين عاماً ، وكأنما وقعت للتو ، حيةً ، متجددةً ، ثرةً ، معطاءة ، تزخر بالدروس والعبر، والمعاني والفِكَر، لا تبلى ، ولا تَخلَق في نفوس المؤمنين .وسوف نتناول أحداثها، معتمدين على روايات الإمام البخاري في صحيحه ، معقبين باستنباط أبرز الدروس المستفادة منها،من خلال ثلاثة مشاهد :
المشهد الأول : الانطلاقة الكبرى :
روى الإمام البخاري ، رحمه الله ، من حديث عائشة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين : إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة. وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك،فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال نعم .فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه. وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر. قال بن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها! فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن،فأذن له، فدخل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم. قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب. فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذاتُ النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام ،شاب، ثقف، لقن. فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه ،حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة ،مولى أبي بكر، منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما ،حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس. يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل ) .
وروى البخاري في مواضع عن أبي بكر رضي الله عنه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )
الدروس المستفادة :
1- سنة الله في ابتلاء أنبيائه ، وعباده المؤمنين : {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88} قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ {89} الأعراف . وقال : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ {13} وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ {14} إبراهيم .وقد قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قص عليه خبر الوحي: (ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . قال : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ) رواه البخاري .
2- اتخاذ الحيطة ، وفعل الأسباب ، لا ينافي التوكل : فهذا سيد المتوكلين،صلى الله عليه وسلم، يأني بيت أبي بكر على غير عادته ، متقنعاً ، ويقول : أخرج من عندك ، ويكمن في الغار ، ويتخذ عيناً على قريش ، هو عبدالله بن أبي بكر ، ويستأجر دليلاً خريتاً ، هو عبدالله بن أريقط .. الخ
قال شيخ الإسلام ، ابن تيمية : ( الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع )الفتاوى 1/131
3- فضل آل أبي بكر ، ومشاركتهم الفعالة في شأن الهجرة : أبوبكر ، وأسماء، وعائشة، وعبالله ، ومولاهم عامر بن فهيرة .وقد حمل أبو بكر ثروته؛ خمسة آلاف ، أو ستة آلف درهم ، رفداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والرد على الرافضة الخبثاء الذين ينالون منهم .
4- أن الله علَّق أمر هذا الدين ، ونصرته ، بجهد أهله ، وبذلهم . ولو شاء لنقل نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في لمح البصر ، كما فعل به ليلة الإسراء والمعراج . قال تعالى :{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} آل عمران . وقال :{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {165} آل عمران. وقال :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7} محمد .
5- عظم إيمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وثقته بربه ، وشعوره بمعيته الخاصة ، في أصعب الأحوال ، وهكذا أنبياء الله ، كما قال موسى ، عليه السلام : ( كلا إن معي ربي سيهدين ).
المشهد الثاني : مفاجآت الطريق :
روى الإمام البخاري من حديث أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال: أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا، حتى قام قائم الظهيرة ، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل. قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته: لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان . فقلت له هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم .فأخذ شاة من غنمه، فقلت له انفض الضرع قال: فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم .فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت:اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت.ثم ارتحلنا والطلب في إثرنا )
وروى البخاري بسنده عن سراقة بن مالك بن جعشم قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره. فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة : فعرفت أنهم هم، فقلت: له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي. وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها؛ أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره. فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات،ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء، مثل الدخان. فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم،ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني، ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم ،ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
الدروس المستفادة :
1- فضل أبي بكر الصديق ،رضي الله عنه، وعظيم محبته للنبي صلى الله عليه وسلم . روى البيهقي ،رحمه الله ، بسنده عن محمد بن سيرين،رحمه الله، قال : ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر،فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر! وليوم من أبي بكر خير من آل عمر! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر،يمشي ساعةً بين يديه ، وساعةً خلفه،حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر ، مالك تمشي ساعةً خلفي ، وساعةً بين يدي ؟ فقال : يا رسول الله ، أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال : يا أبا بكر : لو كان شيء ،لأحببت أن يكون بك دوني ؟ قال : نعم ، والذي بعثك بالحق . فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر مكانك يا رسول الله، حتى أستبرئ لك الغار، فدخل ، فاستبرأه ، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة، قال : مكانك يا رسول الله، حتى أستبرئ ، فدخل ، فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل .
2- شدة عداوة المشركين للمؤمنين ، وبذلهم الغالي والنفيس لحرب الدين وأهله . قال تعالى : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} المائدة 82 ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} الأنفال .
3- آية من آيات الله ، وعلامة من علامات النبوة .
4- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، وكريم تعامله .
المشهد الثالث : بهجة القدوم :
روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض. وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم. فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون.فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا. فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته : هذا إن شاء الله المنزل. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا،فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن
هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربَّنا وأطهر
ويقول :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجره
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي . قال بن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت .
وروى الإمام البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس. فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر. ثم قدم عمر ابن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعل الإماء يقلن : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فما قدم حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور من المفصل
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بكر،رضي الله عنه، قال :فقدمنا المدينة ليلا ، فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنزل على بني النجار، أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك. فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله . يا محمد يا رسول الله
وروى البخاري عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، نزل في علو المدينة، في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار . قال: فجاؤوا متقلدي سيوفهم. قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة ، ويصلي في مرابض الغنم . قال: ثم أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار ، فجاؤوا ، فقال : يا بني النجار ، ثامنوني حائطكم هذا. فقالوا: لا والله ، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله . قال: فكان فيه ما أقول لكم ؛ كانت فيه قبور المشركين ، وكانت فيه خرب ، وكان فيه نخل . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ، وبالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع . قال: فصفوا النخل قبلة المسجد. قال: وجعلوا عضادتيه حجارة . قال: جعلوا ينقلون ذاك الصخر، وهم يرتجزون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، يقولون :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة *** فانصر الأنصار والمهاجره
الدروس المستفادة :
1- فضيلة الأنصار،رضوان الله عليهم، واستحقاقهم لثناء الله عليهم بقوله :{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} الحشر.
وقد روى البخاري في التاريخ الصغير،بسند صحيح، أن عدد الذين استقبلوه من الأنصار خمسمائة . فتح الباري :7/251 . أما ما يحكى من استقباله بنشيد : طلع البدر علينا، فلا يثبت.
2- علم يهود بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أخبر الله عتهم بقوله : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ {89} البقرة .
3- عظم شأن المسجد في الإسلام ، وأنه عصمة المجتمع ، ومنبع النور ، ومهوى أفئدة المؤمنين ، ومستراح نفوسهم . كما أنه منتداهم السياسي ، والاجتماعي ، والعلمي ؛ ففيه تعقد الألوية ، وتستقبل الوفود ، وتنشد الأشعار ، وتدبج الخطب ، وتقام الاحتفالات . فهو قلب المجتمع النابض ، وسرة الحي ، فلا عجب ان كان أول مشروع عمراني في دولة الإسلام الأولى .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبه/ د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي