الحمد لله ربِّ الأرباب، مُسبِّبِ الأسباب ومُنْزِلِ الكتاب، حَفِظَ الأرض بالجبال من الاضطراب، و قهر الجبّارين وذلّلَ الصعاب، و سَمِعَ خفيَّ النطقِ و مهموسَ الخطاب، أنزلَ القرآن يحث فيه على ترك الذنوب و اكتساب الثواب وقال فيه: (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبروا آياته و ليتذكّرَ أولوا الألباب)
أحمده تعالى إنه العزيز التواب وأصلّي وأسلم على رسوله محمدٍ النبيِّ الأواب، وعلى صاحبه أبي بكر خيرِ الأصحاب، وعلى عمر الذي إذا ذكر في مجلس طاب، وعلى عثمان المقتول ظلماً و ما تعدى الصواب، و على عليٍّ البدرِ يوم بدرٍ والصَّدر يوم الأحزاب، وعلى عمه العبّاس الذي نسبه أشرف الأنسابِ، اللهم يا من ذلّت له جميعُ الرقاب، و جرَت بأمره الريح والسحاب، احفظنا في الحال و المآب، وألهمنا التزود قبل أن ندخل تحت التراب، ارزقنا الاعتبار بسالفي الأتراب، وأرشدنا عند السؤال إلى صحيح الجواب، ونجّنا من العذاب يوم البعثِ والحساب واغفر لشيبنا والشباب، وارزقني و الحاضرين عمارة القلوب من الخراب، برحمتك نستغيث يا كريم يا وهّاب. اللهمَّ صلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ، اللهُمَّ زِدْهُ شَرَفًا وَتَعْظِيمًا، اللهُمَّ تَوَفَّنَا عَلَى صِرَاطِكَ المُستَقِيم. اللهمَّ وَثَبِّتْنا عَلَى الدِّينِ القَوِيمِ.
أما بعدُ أيها الأحبةُ المسلمونَ، اتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرءَانِ الكَريمِ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عنهُ مَسئُولاً﴾ سورةُ الإسراءِ / ءاية 36. أَحِبَّتِي نحنُ مَا خُلِقْنَا في هذهِ الدنيا لِنَنْشَغِلَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ بِخَرَابٍ زَائِلٍ وَلا بِحُطامٍ زَائِلٍ ولا بِثِيابٍ تذهَبُ إلَى المزَابِلِ وَلا بِفِرَاشٍ تَأكُلُه النارُ فَيَصِيرُ رَمَادًا وَلا بِطَعَامٍ يَتَحَوَّلُ إِلَى قَذَرٍ تَعَافُه النَّفْسُ، بَلِ اللهُ تَعالَى خَلَقَنَا لِيَأْمُرَنَا بِطَاعَتِهِ وَهُوَ الرَّبُّ المعبودُ، عَلِمَ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أنَّ مِنَ العِبادِ مَنْ سَيَكونُ طَائِعًا وأنَّ منَ العبادِ من سيكونُ مُكَذِّبًا مُعَانِدًا، أَعَدَّ الجنةَ لِعِبَادِهِ المؤمنِينَ وأَعَدَّ النارَ وَما فِيها مِنَ عَذابٍ أليمٍ لِلَّذينَ كَذَّبوا اللهَ وَأنْبِياءَه، فنَحْنُ لَسْنَا كالبَهَائِمِ نَأْكُلُ ونشرَبُ وَنَسْرَحُ وَنَمْرَحُ كَالأَنْعَامِ، نحنُ لسنا كالبَهائِمِ للأَكْلِ وَالشربِ والنَّومِ بِلِ اللهُ تعالَى خلقَنا لِيَأْمُرَنا بِطَاعَتِه وَيَنْهَانَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ مَنْ لمَ يَعْرِفْ هذا، لَمْ يَعْرِفْ لِما خُلِقَ، أليسَ اللهُ تعالَى يقولُ في القُرءانِ الكَرِيم: ﴿أيحسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ سورةُ القِيامة / ءاية 36. كثيرونَ أولئكَ الذينَ ما عَرَفُوا لِمَا خُلِقُوا فَتَرَاهُمْ يَنْطَبِقُ عليهِمْ حديثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ يُبْغِضُ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ جِيفَةٍ بِالليلِ، حِمَارٍ بِالنَّهَارِ، عَارِفٍ بأَمْرِ الدُّنْيَا جَاهِلٍ بِأَمْرِ الآخِرَةِ”، هَذا الصِّـنفُ مِنَ النَّاسِ كثيرٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وقليلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور﴾. واللهُ تَعالَى عَلِمَ أَنَّ مِنْ عِبادِهِ المسلِمِينَ مَنْ سَيَكُونُ وَلِيًا تَقِيًا صَالِحًا، وَأَنَّ مِنْ عِبادِهِ المسلمينَ مَنْ سَيَكونُ فَاسِقًا عَاصِيًا مُذنِبًا، فَمِنَ الناسِ مَنْ يَعصِي الإِلَهَ بِأُذُنَيْهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْصِي اللهَ بِعَيْنَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْصِي الإِلَهَ بِيَدَيْهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْصِي الإِلَهَ بِرِجْلَيْهِ، وَرَبُّ العِبَادِ يَقُولُ: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كَانَ عنهُ مَسئُولاً﴾ سورةُ الإسراءِ . وَمِنَ الناسِ من يَعْصِي الإِلَهَ بِلِسَانِه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ سورة ق/ . أمَّا المسلِمُ الكَامِلُ التَّقِيُّ الصالِحُ هُوَ الذِي عَنَاهُ رَسولُ اللهِ بِقَولِه عَلَيهِ الصلاةُ والسَّلامُ: “المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِنْ لِسَانِه وَيَدِه” أي المسلِمُ الكَامِلُ هو الذِي كَفَّ أَذاهُ عَنِ المسلمِينَ وغَيْرِ المسلِمينَ فَلَمْ يُؤْذِهِم بغيرِ حَقٍّ لا بِلِسانِه وَلا بِيَدَيْهِ وَلا بِغَيرِ ذلكَ فَمَنْ عَصَى اللهَ تَعالَى مِنَ المسلمينَ بِحَيْثُ لَمْ يَصِلْ إلَى مرتَبَةِ الكُفرِ كَمَنْ تَرَكَ صَلاةً مُتَكَاسِلاً أَوْ أَفْطَرَ في رمضانَ وجاهَرَ بذلكَ أو كانَ عاقًّا لأُمِّهِ أَوْ لأَبِيهِ أو كانَ ءاكِلَ مَالِ اليَتِيمِ ظُلْمًا أَوْ ءاكِلَ مَالِ الرِّبَا أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ أَوْ زَانِيًا أَوِ انْتَحَرَ بِأَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ تَحَسَّى سُمًّا أَوْ تَرَدَّى مِنْ عُلْوٍ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَرِضَ على اللهِ بِقَلْبِهِ إِنَّمَا كما لو كانَ وَقَعَ فِي فَضِيحَةِ زِنا أَوْ كَمَا لَوِ ارْتَكَبَتْهُ الدُّيونُ والنَّاسُ يُطالِبُونَهُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ وَانْتَحَرَ لِمُجَرَّدِ هذِهِ الذُّنُوبِ لا يَكونُ المسلِمُ كافِرًا لا يَصِيرُ بِها المسلِمُ كافِرًا. أَمَّا أَنْ يَفْعَلَ الإِنْسَانُ مَا يُحَرِّكُه الشيطانُ إليهِ مِنْ مُحَرَّماتٍ وتَرْكِ الوَاجِباتِ فَلْيَتَذَكَّرْ كُلٌّ مِنَّا قولَ اللهِ تعالَى: ﴿أيحسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾، وقد قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ: “مَنِ اسْتَمَعَ إلى حَديثِ قَوْمٍ وهم له كَارِهُونَ صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيامَةِ”. أَيِ الرَّصاصُ المُذَابُ. أليسُ قالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هذا الحديثَ؟! بَلى، هذا فيهِ بيانُ مَعْصِيَةِ الأُذُنِ. أليسَ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “وَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ”؟! بَلَى. هَذَا مَعْنَاهُ فِيهِ بَيَانُ مَعْصِيَةِ العَيْنِ، أَلَيْسَ قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “المسلِمُ مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ” ؟ هَذا فِيهِ بَيانُ مَعْصِيَةِ اليَدِ وَاللسَانِ، فَيَا أَيُّها الإِنسانُ اعْمَلْ لآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا وَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّدَ مِنْ زَادِ الآخِرَةِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَكَ مَلَكُ الموتِ فَإِنَّ عزرائيلَ لا يَسْتَأْذِنُ عَلَى أَحَد، لا يترُكُ صَغِيرًا رَضِيعًا كَمَا لا يَتْرُكُ رَجُلاً صَحِيحًا قَوِيًّا فيأخُذُ الشِّيبَ وَالشيوخَ وَالعُجَّزَ وَالْمَرْضَى فِي المستَشْفَيَاتِ فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيرِ عِلَّةٍ وَكَمْ مِنْ أَحْفَاد مَاتُوا قَبْلَ أَجْدَادِهِمْ فَهَيِّؤُوا الزَّادَ لِيَوْمِ المَعَادِ، وَالزَّادُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ طَلَبِ علمِ الدِّينِ فَالعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَالمَالُ أَنْتَ تَحْرُسُهُ، كَثِيرُونَ من الناس بدَلاً مِنْ أَنْ يَكُونُوا حَرِيصِينَ علَى التَّزَوُّدِ بِمَا يَنْفَعُهم لآخَرِتِهِم تَرَاهُم يَتَكَالَبُونَ وَيَلْهَثُونَ وَيترُكونَ مَا يَنْفَعُهُم فِي قُبورِهِم وَإِذَا مَا دَفَنَهُمْ أَهلوهُم وَأَلْقَوْا علَيهِمُ الترابَ، وَانْهَالَ عليهِمُ التُّرابُ، وصارُوا تَحتَ التُّرابِ عَادَتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهم وَإِنَّهُم لَيَسْمَعُونَ قَرْعَ نِعالِهم إذا انصَرفُوا أَتاهُمْ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لأحَدِهِما مُنكرٌ وَلِلآخَرِ نَكيرٌ، مُنكرٌ معناهُ هذهِ الهيئَةُ غيرُ مَعروفَةٍ هَيْئَـتُهُما غَيْرُ مَعروفَةٍ هيئَتُهُما تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الملائِكَةِ وَعنِ الإِنْسِ والجِنِّ. هذا مَعْنَى مُنكر ولَيسَ مَعناهُ باطِل، فَيُقْعِدانِه فَيُجْلِسَانِه فَيَسْأَلانِه: “مَنْ رَبُّكَ، مَا دِينُكَ، مَنْ نَبِيُّكَ”، المسلمُ لو ماتَ مَقْطُوعَ اللسانِ يقولُ: “رَبِّي اللهُ، وَدينِي الإسلامُ، ومُحَمَّدٌ نَبِيِّي صلى الله عليه وسلم جاءَنا بِالهُدَى والبَيِّنَاتِ، فأما الذينَ كَذَّبُوا اللهَ وَرُسُلَهُ وَعانَدُوا القُرءانَ العظيمَ يأتِيهِمْ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ أي لونُهُما ليسَ مِنَ الأَسْودِ الخالِصِ بل مِنَ الأَسودِ الممزُوجِ بالزُّرقَةِ وَهذا أخوفُ ما يكَونُ مِنَ الأَلْوانِ، فيكونُ الفَزَعُ في قلوبِهِم قَد تَمَلَّكَهُم، فَيَقُولانِ لِهذا المكذِّبِ “ما كُنْتَ تقولُ في هَذَا الرَّجُلِ مُحمدٍ؟ فَيقُولُ: “لا أدْرِي كنتُ أَقُولُ كمَا يَقُولُ الناسُ” فيقولانِ لَهُ: “لا دَرَيْتَ وَلا تلَيْتَ” فَيَضْرِبَانِهِ بِمِطْرَقَةٍ بينَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ حَوْلَهُ غير الإِنْسِ والجِنِّ. اعمَلْ لِقَبْرِكَ، القبرُ صندوقُ العمَلِ، اعمَلْ عمَلاً يُنْجِيكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، اعمَلْ عَمَلا يُنجِيكَ وقتَ السؤالِ، اعمَلْ عَمَلاً يَقِيكَ مِنْ هَوامِّ القبرِ وَحَشَراتِه. هذا و استغفر الله لي و لكم.