الجواب :
الحمد لله
أولا :
ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) رواه البخاري (136) ، ومسلم (246) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ) رواه مسلم (247) .
والغرة : الْبَيَاضُ الَّذِي يَكُونُ فِي وجْه الفَرس .
والتحجيل : بياض يكون في قوائم الفرس .
ومعنى الحديث : أن وجوه هذه الأمة وأيديهم وأرجلهم ستأتي يوم القيامة وعليها نور يتلألأ من أثر الوضوء .
انظر : "سبل السلام" (1/139) ، و"شرح الشيخ ابن عثيمين لبلوغ المرام" (1/191) .
ثانيا :
اختلف العلماء في الزيادة على الحد المفروض في الوضوء :
فالجمهور –خلافا للمالكية- يرون استحباب الزيادة على الحد المفروض ؛ استدلالا بالحديث السابق
فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل ) .
قال الحصفكي الحنفي رحمه الله في "باب سنن الوضوء" :
"ومن الآداب .. وإطالة غرته وتحجيله" انتهى من "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" (1/130( .
وقال ابن قدامة الحنبلي :
"الْمُبَالَغَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ... وَالْمُبَالَغَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْلِيلِ، وَبِتَتَبُّعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ بِالدَّلْكِ وَالْعَرْكِ ، وَمُجَاوَزَةِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ بِالْغَسْلِ" ثم ذكر حديث أبي هريرة. انتهى من "المغني" (1/78) .
وكثير من العلماء القائلين بمشروعية هذه الزيادة ينصون على تجاوز الفرض إلى العضدين والساقين ، وأن الغاية فيهما استيعابهما .
وأما الغرة فكثير منهم يسكتون عن إطالة الغرة ، أو يفسرونها بالتحجيل .
وقد نبّه النووي رحمه الله على ذلك ، ثم ذكر قول الرافعي في إطالة الغرة ، وأنه يكون بغسل مقدم الرأس ، وما يلاصق الوجه من صفحة العنق .
فقال رحمه الله :
"أما حكم المسألة : فاتفق أصحابنا على استحباب غسل ما فوق المرفقين والكعبين...
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: تَطْوِيلُ الْغُرَّةِ سُنَّةٌ ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضَ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ مَعَ الْوَجْهِ ، وَتَطْوِيلُ التَّحْجِيلِ سُنَّةٌ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضَ الْعَضُدِ مَعَ الْمِرْفَقِ ، وَبَعْضَ السَّاقِ مَعَ الْقَدَمِ .
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي ذَلِكَ ، فَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ ، فَقَالُوا: تَطْوِيلُ الْغُرَّةِ : غَسْلُ مُقَدَّمَاتِ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ ، وَكَذَا صَفْحَةُ الْعُنُقِ ، وَتَطْوِيلُ التَّحْجِيلِ غَسْلُ بَعْضَ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ ، وَغَايَتُهُ اسْتِيعَابُ الْعَضُدِ وَالسَّاقِ ...
فَأَحْسَنُ مَا فِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيِّ ، وَمُرَادُهُمَا : غَسْلُ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ الرَّأْسِ ، وَمَا يُلَاصِقُ الْوَجْهَ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، وَهَذَا غَيْرُ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَتِمُّ غَسْلُ الْوَجْهِ إلَّا بِهِ" انتهى من "المجموع شرح المهذب" (1/428) .
وقال الخطيب الشربيني رحمه الله:
"(و) من سننه (إطالة غرته) بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه، وغايتها غسل صفحة العنق مع مقدمات الرأس (و) إطالة (تحجيله) بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين من جميع الجوانب، وغايته استيعاب العضدين والساقين)" انتهى من "مغني المحتاج" (1/191).
- وذهب المالكية إلى عدم استحباب تلك الزيادة .
ينظر : "شرح مختصر خليل للخرشي" (1/140) .
وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما .
قال البسام رحمه الله في "توضيح الأحكام" (1/228) :
"وذهب الإمام مالك وأهل المدينة: إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإِسلام، وابن القيم، واختار هذه الرواية من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أوَّلاً: مجاوزة محل الفرض على أنَّها عبادة، دعوى تحتاج إلى دليل.
ثانيًا: كل الواصفين لوضوء النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ذكروا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين.
ثالثًا: آية الوضوء حدَّدت محل الفرض: المرفقين والكعبين، وهي من آخر ما نزل من القرآن.
رابعًا: لو سلمنا بهذا، لاقتضى الأمر أنْ نتجاوز حدّ الوجه، إلى بعض شعر الرأس، وهذا لا يسمَّى غرَّة؛ فيكون متناقضًا.
خامسًا: الحديث لا يدل على الإطالة؛ فإنَّ الحلية إنَّما تكون زينة في السَّاعد والمعصم، لا العضد والكتف.
سادسًا: أمَّا قوله: (فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّته وتحجيله، فليفعل) فهذه الزيادة مدرجةٌ في الحديث من كلام أبي هريرة، لا من كلام النَّبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في رواية أحمد (8208)، وقد بين ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ" انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (1/236) :
"ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ ، لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحٍ عَنْ نُعَيْمٍ وَفِي آخِرِهِ قَالَ نُعَيْمٌ :لَا أَدْرِي قَوْلُهُ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَخْ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
قال الحافظ : وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي رِوَايَةِ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ عَشَرَةٌ ، وَلَا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَ رِوَايَةِ نُعَيْمٍ هَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَالْوُضُوءُ الثَّابِتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : لَيْسَ فِيهِ أَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ ، وَلَا غَسْلُ مَا زَادَ عَلَى الْمَرْفِقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ ، وَلَا مَسْحُ الْعُنُقِ .
وَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) ؛ بَلْ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَاءَ مُدْرَجًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إنَّكُمْ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ) .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ وَالسَّاقِ ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) .
وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ غَسْلَ الْعَضُدِ مِنْ إطَالَةِ الْغُرَّةِ ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ، فَإِنَّ الْغُرَّةَ فِي الْوَجْهِ لَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَإِنَّمَا فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ الْحَجْلَةُ.
وَالْغُرَّةُ لَا يُمْكِنُ إطَالَتُهَا فَإِنَّ الْوَجْهَ يُغْسَلُ كُلُّهُ ، لَا يُغْسَلُ الرَّأْسُ ، وَلَا غُرَّةَ فِي الرَّأْسِ ، وَالْحَجْلَةُ لَا يُسْتَحَبُّ إطَالَتُهَا ، وَإِطَالَتُهَا مُثْلَةٌ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/280) .
وقال ابن القيم :
"وقد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته .
والصحيح : أنه لا يستحب ، وهو قول أهل المدينة . وعن أحمد روايتان .
والحديث لا يدل على الإطالة ، فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم ، لا في العضد والكتف .
وأما قوله : ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) ؛ فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة ، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، بيّن ذلك غير واحد من الحفاظ .
وفي مسند الإمام أحمد في هذا الحديث : قال نعيم : فلا أدري قوله : ( من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو شيء قاله أبو هريرة من عنده" .
وكان شيخنا [يعني : ابن تيمية] يقول "هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله ؛ فإن الغرة لا تكون في اليد ؛ لا تكون إلا في الوجه ، وإطالته غير ممكنة ، إذ تدخل في الرأس ، فلا تسمى ذلك غرة" انتهى من "حادي الأرواح" (ص201) .
والخلاصة :
أن السنة لمن يتوضأ : أن يغسل يديه إلى مرفقيه ، حتى يشرع في العضد ، ويغسل رجليه وكعبيه ، حتى يشرع في الساق ؛ لأن هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .