ثروت Admin
عدد المساهمات : 1166 تاريخ التسجيل : 18/06/2014 الموقع : خى على الفلاح
| موضوع: باب اليقين والتوكل- الجمعة أكتوبر 06, 2017 5:02 pm | |
| شرح مقدمة الباب 1
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكنا في الأسبوع الماضي قد ابتدأنا الكلام على باب اليقين والتوكل، وبينا المراد باليقين، والمراد بالتوكل، ووجه الملازمة بين البابين.
ثم ذكر الإمام النووي -رحمه الله- على عادته بعض الآيات التي صدر بها هذا الموضوع، فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فهؤلاء من أهل الإيمان لما تم توكلهم، وكمل لهم من اليقين كانوا بهذه المنزلة من الثقة بوعد الله -تبارك وتعالى- لهم بالنصر، مع أنهم لم يروا شيئاً من بوادره وأماراته، وإنما رأوا عدواً قد أحاط بالمدينة من كل جانب، كما أنهم رأوا نقضاً من اليهود، ورأوا أيضاً بوادر الخيانة من المنافقين، مع تضعضعٍ من ضعفاء الإيمان وتراجع.
فهؤلاء من المؤمنين حينما رأوا هذه الأمور وهي لربما تنبئ لأول وهلة، أو لربما يستشف منها من يأخذ بظواهر الأمور أن الهزيمة محققة، ولهذا قال المنافقون: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وعدهم في أثناء حفر الخندق بفتح الممالك العظيمة، من قصور الشام وفارس، واليمن، وهي أعظم الممالك آنذاك، فكان المنافقون يقولون: الواحد منا لا يأمن على نفسه إذا خرج لقضاء حاجته، فكيف يعدنا بقصور كسرى وقيصر؟!
فقص الله خبرهم، وذكر مقالتهم التي تدل على سوء ظنهم بالله -جل جلاله-، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 12-13]، يعني: لماذا ترابطون على الخندق؟، لا مقام لكم فارجعوا، فهؤلاء ملأ الخوف قلوبهم.
أما أهل الإيمان فقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]، والمقصود بذلك: أن الله وعدهم بالابتلاء الذي تكون عاقبته النصر، فإذا كانت هذه مقالة أهل الإيمان في أحلك الظروف والأحوال، وفي الشدائد، والأمور الصعاب، فكيف يكون يقينهم في حال الاستقرار والنعمة والعافية؟!
فأقول: هذا أمر لا يحصل للإنسان إلا إذا كمل إيمانه، وطرد عن قلبه جميع الأمور التي من شأنها أن تضعف الإيمان، ولم يعلق ذلك القلب بأحد من المخلوقين، فلا يرجوهم، ولا يخافهم، ولا يتوكل عليهم، فيكون ما يراه من الشدائد والبلايا سبباً لزيادة إيمانه وكمال يقينه، عكس المتضعضع كلما ابتلي ببلية كلما انكسر وانفت عضده، وتراجع إلى الوراء، حتى ينتكس.
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، هؤلاء بعد أُحُد، وبعد ما أصابهم من الهزيمة، والألم والجراح، وخرج المشركون وفي طريقهم إلى مكة ندموا أنهم لم يستأصلوا المسلمين، والتقى أبو سفيان بنعيم بن مسعود وهو متوجه إلى المدينة، وأعطاه حمل بعير من طعام إذا هو بلّغ ذلك الخبر عن أبي سفيان إلى المسلمين، فلقي ذلك الرجل أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم -يقصد أبا سفيان-، جمعوا لكم، وأعدوا العدة من أجل الكرة، والرجوع إلى المدينة لاستئصالكم، والمسلمون فيهم ما فيهم من التعب والإصابات، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل، هو نعم الملجأ الذي يُركن إلى جنابه، هو حسبنا، هو كافينا.
فالله هو الذي يكفي عبده ويقيه كل المخاوف؛ لأن أزمّة الأمور بيده، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، على القول الراجح في تفسير هذه الآية: حسبك الله أي: كافيك الله، وهو كافٍ من اتبعك من المؤمنين، وليس المعنى: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، التأييد يكون بالمؤمنين {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، وأما في الكفاية والحسب فالله وحده، حسبك الله، ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله: أي كافيهم، وليس معنى ذلك أن الله يكفيك وأن المؤمنين يكفونك، فالكفاية ممن يملك الكفاية وهو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى.
{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وبناء على ذلك يوحّد المؤمن الوجهة، ويوجه قلبه إلى بارئه وفاطره، فينتظر منه المدد والعون والنصرة، وأن يقويه، وما أشبه ذلك مما يفتقر إليه العبد، وكلما صوب نظره إلى المخلوقين، وانصرف عن الخالق كلما كان ذلك من خذلانه، فيحصل له عكس مقصوده ومطلوبه.
{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، فكانت النتيجة: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، ثم قال بعدها: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} [آل عمران: 175]، فالأرجح في معناها والأشهر من أقوال أهل العلم: أي: يخوفكم من أوليائه، ويعظمهم ويضخمهم، ويجعل لهم هالة وسمعة كبيرة جداً يتقاصر دونها كثير من الخلق من الضعفاء ممن لا يعرفون الله، فيرون أنهم ذر بالنسبة لهؤلاء المخلوقين الذين يملكون القوى العظيمة.
هذا كلام رب العالمين، من يعلم السر وأخفى، {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، لا تخشوهم، ولا تلتفتوا إليهم، فليكن خوفكم مني، فأنا الذي أملك نصركم وهزيمتهم.
والحديث له بقية، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. شرح مقدمة الباب 2
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن جملة الآيات التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في صدر هذا الباب قوله -تبارك وتعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، فالله -تبارك وتعالى- أمر بالتوكل عليه، وهذا الخطاب في ظاهره موجه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعلوم أن الخطاب الموجه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوجه إلى الأمة؛ لأنه قدوتها -عليه الصلاة والسلام- إلا ما خصه الدليل.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو إمام المتوكلين يأمره الله -عز وجل- أن يتوكل عليه، فغيره من باب أولى، أي: فوضْ أمرك إلى الله، واركن إلى جنابه، ولا تعلق قلبك بالمخلوقين، فإنهم أعجز من أن يملكوا لأنفسهم ضراً أو نفعاً فيمنحوك شيئاً من ذلك.
وهذا الوصف والأسماء التي ذكرها الله -عز وجل- في هذا الأمر {الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} في غاية المناسبة؛ وذلك أن المتوكَّل عليه إذا كان يموت فإن الرجاء به ينقطع، قد يركن الإنسان إلى مخلوق ينفعه ويدفع عنه بما يقدره الله -عز وجل- له، ويعطيه ويوليه، ولكن الإنسان هذا يموت فيكون أمره كما قيل:
لكَ العزُّ إنْ مولاك عزّ وإنْ يهُنْ*** فأنتَ لدى بُحبوحةِ الهَوْنِ كائنُ
فهذا الإنسان الذي يعتمد على مخلوق قد يعتز به، ويركن إليه، ويتقوى به مدة من الزمن، يتمتع بهذا ثم بعد ذلك إذا صار إلى هوان أو فناء يكون مصيره مصير ذلك الإنسان الذي ركن إليه، أما الله -تبارك وتعالى- فهو الحي الذي لا يموت، فله الحياة الكاملة التي لا يعتورها نقص، فهو لا ينام، ولا يغفل، ولا يسهو، وذلك كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله-: إذا كان لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم -لا تأخذه غفلة، فهو الذي يدبر أمر هذا العالم علويه وسفليه، وبيده أزمة الأمور- فهو الذي ينبغي أن تتوجه القلوب إليه.
وقال: {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]، نأخذ من هذه الآية قضيتين:
الأولى: أن التوكل يجب أن ينصرف إلى الله -جل جلاله- وينحصر به، فلا يجوز أن يتوكل على المخلوق، حتى في الأمور التي يقدر عليها، فإن التوكل من العبادات المختصة بالله -جل جلاله-، وصرفها لغير الله شرك، إن كان فيما لا يقدر عليه المخلوق فهو شرك أكبر، وإن كان فيما يقدر عليه المخلوق فهو شرك في الألفاظ، فلا يقول الإنسان لمخلوق: أنا متوكل عليك تُنهي لي القضية الفلانية، أو تنجز لي العمل الفلاني، لكن يقول: أنا متوكل على الله، لا يقول أيضاً: أنا متوكل على الله ثم عليك؛ لأن ذلك مختص بالله فقط، لكن ممكن أن يقول: أنا موكلك في هذا الأمر، وكلتك للقيام بهذا العمل، لكن لا يقول: أنا متوكل عليك، فالتوكل على الله، ولهذا حصره هنا بتقديم على {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك، لا نستعين بأحد سواك، بخلاف ما لو قال: وتوكلوا على الله، فالأولى تدل على أن التوكل مختص بالله، لا يجوز أن يصرف لغيره.
الثاني: قال: : {وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، ذكر الإيمان، فدل على أن هذا من شرطه، أو أنه من أخص أوصاف أهل الإيمان، أو من أعظم مقتضياته، فالتوكل على الله -عز وجل- جزء لا يتجزأ من الإيمان، فإن الإيمان يعني أن يتوكل الإنسان على الله، ولا يتوكل على أحد سوى الله -جل جلاله.
وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [آل عمران: 159]، الإنسان يستخير، ويستشير، ثم بعد ذلك يعزم على الأمر، ويفوض أمره إلى الله -عز وجل-، فإن الله لن يضيعه، وإنما يكتب له ما فيه الخير.
وقال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، فهذه نتيجة، ولهذا يقول أهل العلم: لم يذكر جزاء معيناً، يقول مثلاً: ومن يتوكل على الله فله أجره، ومن يتوكل على الله نجزه بكذا، وإنما ذكر النتيجة المطلوبة للعبد المتوكل الذي يريد الكفاية، فذكر مباشرة هذا المطلوب، قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، أي: أن الله كافيه، هذا مثل قوله -تبارك وتعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء:82]، فلم يقل: دواء؛ لأن الدواء قد يصيب وقد يخطئ، وقد يناسب هذا ولا يناسب الآخر، لكنه قال: شفاء.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فذكر هذه الأوصاف الثلاثة، وجل القلب عند ذكر الله -عز وجل-، وزيادة الإيمان عند تلاوة الآيات، والتوكل على الله -تبارك وتعالى-، وذكرها بصيغة الحصر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي هم الذين بهذه الصفات الثلاث، وهذا يدل على أن هذه الأمور الثلاثة من الإيمان الواجب، بمعنى: إذا كان الإنسان لا يتحرق قلبه عند ذكر الله -عز وجل-، وإذا تليت آياته لا يزداد إيمانه، ولا يتوكل على الله، فإنه يكون قد نقص من إيمانه الواجب مما يستوجب معه الوعيد أو العقاب، إلا إذا غفر الله -عز وجل- له، والسبب في ذلك هو أسلوب الحصر في الآية.
قال: والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة، ثم ذكر طائفة من الأحاديث.
أسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. | |
|