شرح حديث أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّهُ عنه- "قِيلَ: يَا رسولَ اللَّهِ مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟.."
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالحديث الأول الذي ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في باب التقوى هو حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قيل يا رسول الله من أكرم الناس؟، قال: ((أتقاهم))، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله...))([1])، إلى آخره.
فأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوه من أكرم الناس؟، وهذا السؤال يحتمل أن يكون السائل مريداً به الكرم الذي بمعنى البذل، والجود والسخاء، وما أشبه ذلك، ويحتمل أن يكون المراد به شرف النسب، ويحتمل أن يكون المراد به أن يكون الإنسان ماجداً نبيلاً، تقول: فلان من كرام الناس، يعني: من خيارهم معدناً، وتقول: هذا من أكرم المال، يعني: من أفضل المال ومن أجود المال، وهذا من أكرم المراكب، تقصد به من أجودها، ومن أحسنها، ومن أفضلها، وما أشبه ذلك.
فسألوا ذلك لحرصهم، واهتمامهم بالأمور التي يحصل بها الارتقاء، وتحصيل المراتب العالية، فكانت همتهم منصرفة إلى هذه المعاني، ولم تكن همتهم منحطة بطّالة منسفلة، فلم يكن اهتمامهم في إرواء الغرائز الجسدية من المأكل والمشرب والمنكح وما أشبه ذلك، وإنما كانوا يبحثون عن الأمور التي يحصل بها النبل، ويحصل بها الرقي للنفس.
فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة بقوله: ((أتقاهم))، وهذا الجواب في غاية المناسبة؛ لأن الشارع إنما يُعنى أول ما يُعنى بهذا الجانب، وقد قرره تقريراً لا لبس فيه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فكان الناس يتفاخرون بالأنساب ومآثر الآباء والأجداد، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك من خصال الجاهلية، وأن هذه الأمة لن تدع ذلك، فبين لهم الشارع أن التفاضل إنما يحصل بالتقوى، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11].
القوم المقصود به الرجال في هذه الآية، وهو المتبادر عند الإطلاق، وقد يدخل فيه النساء على سبيل التبع، {وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}، الإنسان لا يسخر من الآخرين، ولا يحط من أقدارهم بناء على بلدتهم، أو بناء على أنسابهم، أو بناء على أسرهم، أو نحو ذلك، فعبد تقي خير من قرشي كافر أو فاجر، ولهذا يقول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فهذه حقيقة كبرى قررها الشرع، لم تكن معهودة بالجاهلية، فكلما كان الإنسان محققاً للتقوى كلما كان كمالاً في حقه، يتقي الله -عز وجل- يخاف من الله، فهذا هو الكريم، هذا الذي تقترب منه وتصاحبه، وهذا الذي يستحق أن يُزوَّج، وأن يُدنى، أما الإنسان الفاجر مهما علا نسبه فلا قيمة له.
وللأسف قد ضُيعت الكثير من هذه المعاني، تجد الرجل يزوج ابنته على أساس الراتب، أو الوظيفة، وإذا زوجها لإنسان فاجر لا يصلي، وربما يشرب الخمر، وله علاقات بنساء وفواحش فقد قطع رحمها.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أجابهم بالجواب المتبادر الذي يليق، وهو في غاية المناسبة لهذا السؤال، فبينوا له أنهم لم يسألوا عن هذا، فذكر لهم جواباً على أحد احتمالات السؤال، وهو أنهم سألوا عن كرم النسب، فقال: ((فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فآباؤه أنبياء، وأبوه وجده إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هو خليل الرحمن، أبو الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وكل من جاء بعده من الأنبياء فهو من نسله، ومن هؤلاء محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أشرفهم، من ولد إسماعيل بن إبراهيم، فمن يتحقق له مثل هذا النسب مع ما ليوسف -صلى الله عليه وسلم- وما أكرمه الله به من النبوة، والعلم بتأويل الرؤى إلى غير ذلك مما قص الله -عز وجل- من خبره؟.
فقالوا: "ليس عن هذا نسألك" تبين أنهم ما يسألون عن النسب، قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟))، وهذا يدل على معرفته -صلى الله عليه وسلم- بوجوه السؤال، والأمور التي يتعلق بها مثل هذا وهو كرم النسب، والكرم الذي هو الفضل والرفعة بالتقوى، كرم النفس، النفوس الطيبة الطاهرة الزكية، فهذا أعظمها، وذكر كرم النسب، وذكر أيضاً الثالث وهو معادن الناس، فتبين أنهم يسألون عن هذا.
قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟)) يعني: هذه قضية الآن ما تتعلق بالنسب، عن معادن العرب، فلان في الجاهلية كان شجاعاً، فلان كان جواداً كريماً، فلان كان له رأي وبصر، وتجربة في الأمور، وصاحب رأي، وما أشبه ذلك من المواصفات التي تكون عند الناس.
فقال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام))، لم يردوا بعد ذلك ويقولوا: ليس عن هذا نسألك، فدل على أنهم سألوا عن هذا.
بيّن لهم هذا أن جودة الإنسان وكرم الإنسان يكون بما يحسنه، وبما يحمله بين جنبيه من المعاني، بما له من همة وسمو يترفع به، بأخلاقه، وأعماله، فيترفع عن الدنايا، ويحمل نفسه على الدرجة الرفيعة في العمل، لا يكون الإنسان متدنياً، يدور حول شهوته، وحول نفسه، وحول مطلوباته الدنية، فستقط منزلته.
من الناس من يهوِي إلى أسفل سافلين من أجل أتفه الأشياء، إذا تعاملت بأدنى معاملة تكون مشكلة طويلة عريضة على قضية تافهة أحياناً من الدنيا، فالناس يمجُّونه، ويكرهون التعامل معه، ويسقط من أعينهم.
فالإنسان يغفل كثيراً وينسى بسبب ضعف نفسه التي لا تساعده على النهوض والترقي، أحياناً تكون النفس ضعيفة لا تستطيع النهوض والقيام، إما لتربيتها السيئة، فقد تربى من الصغر على أنه لا يؤخذ عليه شيء، لا يدعو أحداً في بيته حتى لا تضيع أمواله، ولا يعفو عن أحد، ولربما ذهب للمحاكم من أجل ألف وخمسمائة ريال.
فهذه التربية من شأنها أن تقعد الإنسان، وأن ينحط، وأن يصير هذا الإنسان حقيراً، صغير الهمة، صغير النفس، يمكن أن يعارك على أتفه الأشياء، بل بعضهم يصرح ولربما كان أستاذاً جامعياً، يقول لأحد طلابه: إذا كنتَ كذا فأنا أستاذ في كذا، كلمات لا أقدر أن أقولها، يعني في دنو النفس وانحطاطها والسفول، والسوء وسلاطة اللسان والبذاءة فيه، يعني كأنه يقول: إنك لا تستطيع مجاراتي في السوء، هذا معنى الكلام، فلا يقول مثل هذا إلا إنسان تربى تربية سيئة.
فأحياناً نحن نربي أولادنا على مثل هذا المعنى، وهذا الصغير يكون قد شنّف آذانه من الصغر، يسمع من أهله، ومن أمه، ومن أخيه، ومن أبيه، يقولون: لا تترك، لماذا تحضر الشيء الفلاني لهم؟
فهؤلاء ليسوا أصحاب نفوس عظيمة كبيرة، وإنما هم صغار، وأحياناً يكون ذلك بسبب آخر وهو غلبة الطمع عند الإنسان، أو غير ذلك، لكن التربية لها أثر كبير في سمو الأخلاق والنبل.
والذين يربون أولادهم على المعاني الحسنة تجد عندهم من المبادرة، وعندهم من معالي الأمور والاهتمام بالأمور الرجولية، والشهامة والكرم ما لا تجده عند كثير ممن يتربون على غير ذلك، لاسيما أبناء الحواضر، تجد فرقاً كبيراً، تجد كثيراً من أمور المروءات لربما تقام في أماكن الأرياف والقرى، وتقل في الحواضر إلا من رحم الله -عز وجل.
قال –صلى الله عليه وسلم-: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقُهوا)) يعني: صار الفقه سجية لهم، صاروا أهل بصر وفهم لدين الله -تبارك وتعالى-، لأن الدين يهذبهم.
والرجل من الكفار لربما تجد عنده من الرأي والمشورة والحزم والكرم والمروءة الشيء الكثير، فإذا أسلم يكون رأساً كبيراً بين المسلمين.
سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- أسلم وعمره ثلاثون سنة، وتوفي وعمره ست وثلاثون لما أصيب في يوم الأحزاب، واهتز لموته عرش الرحمن، فمدة بقائه في هذا الدين ست سنوات، لكن اهتز لموته عرش الرحمن، ونحن كم نقضي في الإسلام؟ ما الذي يهتز لموتنا؟ أحياناً جيران الإنسان لا يعرفون أنه مات.
فهو عبارة عن رقم فقط، ليس له أي أثر، ومن الناس من يكون سراجاً يضيء في بيته، ومنهم من يكون مصباحاً يضيء لجيرانه، ومنهم من يكون شمساً للدنيا ينتفع به القاصي والداني، إما بماله، وإما بعلمه، وإما بشجاعته، أو برأيه، أو غير ذلك من الأمور.
لكن الكثير من الناس لا يستطيعون هذا لغلبة النزعة الطينية عليهم، وإلا فما الذي يجعلهم يتمرغون في الأوحال؟!.
لو أتيت لشخص وقلت له: أنت لا تساوى شيئاً لغضب غضباً شديداً، لكن العبرة بالحقيقة، والعبرة بالتطبيق، العبرة بالناحية العملية الواقعية.
نسأل الله -عز وجل- أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يوفق المسلمين عامة لما يحب ويرضى، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
[1] - أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} (3/1224)، رقم: (3175)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف -عليه السلام- (4/1846)، رقم: (2378).