كلمة عن القرآن الكريم
القرآن الكريم هو كلام الله - تعالى - المنزَّل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - المتعبَّد بتلاوته، المتحَدَّى بأقصر سورة منه، المنقول إلينا بالتواتر.. هذا القرآن هو الكتاب المُبِين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.. وهو المعجزة الخالدة الباقية، المستمرة على تعاقب الأزمان والدهور إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
وهو حبل الله المَتِين، والصراط المستقيم، والنور الهادي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فيه نبأ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، مَن تركه من جبار قصمه الله، ومَن ابتغى الهُدَى في غيره أضلَّه الله، مَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه فقد هُدِي إلى صراط مستقيم.
هذا القرآن هو وثيقةُ النبوة الخاتمة، ولسان الدين الحنيف، وقانون الشريعة الإسلامية، وقاموس اللغة العربية، هو قدوتنا وإمامنا في حياتِنا، به نهتدي، وإليه نحتكم، وبأوامره ونواهيه نعمل، وعند حدوده نقف ونلتزم، سعادتنا في سلوك سننه واتباع منهجه، وشقاوتُنا في تنكُّب طريقه والبعد عن تعاليمه.
وهو رباطٌ بين السماء والأرض، وعهدٌ بين الله وبين عباده، وهو منهاجُ الله الخالد، وميثاق السماء، الصالح لكل زمان ومكان، وهو أشرف الكتب السماوية، وأعظم وحي نزل من السماء.
وباختصار، فإن كلام الله - تعالى - لا يُدَانِيه كلام، وحديثه لا يشابهه حديث؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87].
قال - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 105 - 108]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في مسند أحمد: ((لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعزِّ عزيز أو ذلِّ ذليل، إما يعزهم الله - عز وجل - فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيَدِينُون لها))، وقال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
تشير الآيات والأحاديث السابقة إلى قضيةٍ في غاية الخطورة والأهمية، وهي أن المستقبلَ لهذا الدين، وأن النصر آتٍ والتمكين، وهذا ينبغي أن يكون يقينًا لجميع المسلمين، وحين تكون هذه القضية عقدية؛، بمعنى: أن تكون عقيدة عن ثقة ويقين، فلا بد إذًا من العمل لها والسعي لتحقيقها، وهذا دأب العقائد عند المؤمنين بها، أن تجعلَهم متحرِّكين متحرِّقين شوقًا لرؤية عقائد القلوب، حقيقة متحققة في الواقع، تلمسها الأيدي وتراها العيون.
وهنا جاء دورك يا ابن الإسلام، لحمل هذه القضية بعد الإيمان بها، والعمل للتمكين بعقيدة ويقين.
يا صاحب القرآن، إن أمتك - أمة الإسلام - أمةٌ خُلِقت لتبقى، ليست زائلة أو مؤقتة، كلاَّ والله.. لا والله ما هي بأمة خلقت لتؤدي دورًا ثم تنتهي، وتصبح تاريخًا كما هو حال الأمم السابقة، إنما هي أمة أخرجها الله لتكون رحمة للعالمين، وشاهدة على الأمم السابقة.. أمة خُلِقت لتحمل الراية وتعيش عزيزة ممكنة إلى آخر الزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ قال - تعالى -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 51، 52]، أخبرنا الله - تعالى - في هذه الآية أنه لو شاء لجعل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنبياء تسوس أمةَ الإسلام، كما كان الأمر قبل ذلك، كانت الأنبياء تسوس بني إسرائيل، كلما مات نبي خلفه نبي.. ولكن شاء الله - تعالى - لحكمة يعلمُها هو - عز وجل - أن يحملَ هذا الدينَ ويسوس الدنيا رجالٌ من الأمة، يحملون القرآن، يقودون به العالم؛ قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فأَمَر ربُّنا - تعالى - في آية الفرقان السابقة بالجهاد بالقرآن، وهو جهاد الحجة والبيان.
والقرآن العظيم معجزة الإسلام، وهو مِن جميع وجوهِه معجزة خالدة، فلا يزال ذخرًا للأمة، ونورًا وحبلاً متينًا، وفيه تربية الأمة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]؛ فالقرآن العظيم فيه من عوامل القوة والإصلاح في النفوس البشرية ما هو أشد من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى؛ ولذلك إذا أردنا رجالاً يحملون هذا الدين، ويعملون على نشرِه والتمكين له إلى آخر الزمان، فلا بدَّ لهؤلاء الرجال أن يحملوا القرآن بكل ما فيه، جملةً وتفصيلاً؛ لأن هؤلاء الرجال لا بدَّ لهم من خبرة وعلم:
• الخبرة بعالم الحياة والمخلوقات والبشر.
• الخبرة بمكنونات النفوس ودفائن القلوب، ودسائس الخواطر.
• الخبرة بأخلاق البشر وطبائعهم وأهوائهم، الخبرة بعقليات المخالفين، وطريقة تفكيرهم، واحتمالات ردود أفعالهم.
• الخبرة بأفكار الكبار والصغار، العامة والخاصة، والأتباع والمتبوعين.
• الخبرة بخبث اللئام، ومكر الخبثاء، ودهاء المنافقين.
• الخبرة بتأثير الدنيا وشهواتها على النفوس، وأثر ملذَّاتها وفتنتها على القلوب.
• الخبرة بمداخل القلوب، وتغيير الأفكار، وتداول الأيام.
• الخبرة بكَظْم الغَيْظ، وتعلُّم العَفْو والصَّفْح، وتجرع مرارة الصبر، ومعاناة الحرمان.
لابدَّ للقادة وحَمَلة الراية من مجموعة خبرات خطيرة؛ ليستطيعوا بهذه الخبرة أن يوجِّهوا الدفَّة في خضمِّ أمواج الأحداث الخطيرة كيلا تغرقَ السفينة، وأنَّى لهم؟!
إن اكتساب الخبرة والمهارة في التعامل مع الخلق لقيادة أمة، وإرساء قواعد، وسلوك سبل لا يكتفَى فيه ولا يكفي التعامل مع مجموعة محدودة من البشر، لفترة محدودة من الزمن، لا بد - ليحصل العمق العملي الواقعي - من اكتساب الخبرة، وأن يكسبك هذه الخبرة:
• خبير بصير، عليم عظيم، غني، حَكَم عدل.
• ولا بد أيضًا من توالي الدهور، وتكرار العصور، وتداول الأيام.
• ولا بد أيضًا من البصيرة بخبايا النفوس وتلونات الأفكار.
• ولا بد كذلك من الإحاطة بالأمر من جميع جوانبه، ورؤيته رؤية شاملة من جميع وجوهه.
• ولا بد كذلك من العلم بالدوافع، والعلم أيضًا بالعواقب، وهذه كلها لا تكون إلا لله - تعالى -: ﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14]، وهذا لا يكون إلا من الله - تعالى - وحده، وما وجدناه إلا في القرآن الكريم..؛ ولذلك تجد كلَّ مَن حمل القرآن بعلم، ودرس القرآن بوعي، وتعلَّم القرآن بفهم، وأدرك المعاني، وغاص مع اللآلئ والدرر في المغازي، خرج بخبرةِ الأمم والشعوب: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282].
إن الذين يضيِّعون أوقاتهم وجهدهم، ويستسلمون لأفكار بشرية، وينبهرون بأطروحات عقلية قاصرة، يظلمون أنفسهم، ويظلمون هذا الدين إن كانوا من أتباعه، إن أردت - يابن الإسلام - الحق صرفًا، والعلم ناصعًا، والخبرة محكمة، فعليك بالقرآن، ولا بد لك منه.
إن أردت - يابن الإسلام - أن تكون ابن الإسلام حقًّا، رضعتَ علومه، وتغذَّيت على أفكاره، ونَبَتَّ على شواطئ أنهاره، وقوي ظهرك، واستوى عودُك على عقائده، فارجع إلى القرآن؛ ليكون زادك نعم الزاد.
وإذا أردت الخبرة - التي ذكرتُ لك، ولا بدَّ لك منها - شرطًا في فهم الحياة، وفهم الناس، وفهم الواقع، ويكون تبصرة للمستقبل، فارجع إلى قصص القرآن وأمثاله؛ قال - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]، وقال: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
إننا إذا أردنا - أيها الجيل الجديد - خروجًا من حالة الغثائية والتِّيه التي تعاني منها الأمة هذه الأيام، فلا بدَّ من هذه الخبرة بتاريخ الإنسانية وأحوال البشرية، ومعاناة الأنبياء والصالحين، والدعاة والمُصْلِحين، الذين يأمرون بالقِسْط من الناس؛ لتكون نبراسًا يضيء لنا الطريق للخروج من هذا النفق المُظلِم الذي أدخلتْ فيه الأمةُ نفسَها.
ولا بد للرجوع إلى قصص الأنبياء والمرسلين من القرآن الكريم والسنة الصحيحة بعيدًا عن الإسرائيليات والمداخلات، والبحث عن التفاصيل غير المفيدة التي أبهمها القرآن عمدًا؛ لتكون الفائدة هي الهدف، والخبرة هي المقصد، والعمل هو المطلوب.
ثَمَّة أمر آخر، وهو أن الله - تعالى - جعلنا شهداء على الناس؛ قال - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، فكيف تكون الشهادة إذًا على سائر الخلق إلا إذا عَلِمنا بحكايتهم مع أنبيائهم، وقد عَرَفت أن شرط الشهادة أن تكون رأيت، كيف ستشهد لنوحٍ أنه بلَّغ، ولموسى وعيسى - عليهم السلام - بأنهما بلَّغا؟! قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري: ((يجيء نوحٌ وأمته، فيقول الله - تعالى -: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقول الله لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمتُه، فنشهد أنه قد بلغ))، لن تستطيع الشهادة إلا إذا عَرَفت سيرة هؤلاء الأنبياء مع قومهم، واعتقدتَها بيقين، واليقين شهادة كأنك رأيتَ، فلا بد من هذه الدراسة الجادة.
يا صاحب القرآن، إن دراسة القرآن دراسة منهجية جادَّة، واستخلاص ما فيه من عظات وعبر ودروس، سبيلٌ لتحقيقِ حلم صناعةِ الرجال، فأقبلْ ولا تَخَفْ، وخُذْ ما آتاك ربك وكن من الشاكرين، تعلَّم وتفقَّه، وتدبَّر واستفد ولا تجرب.. لا تشك، ولا تتردد.
قصص الأنبياء ستجد فيها بُغْيَتك إن أردتَ السيادة والقيادة، والهداية والريادة، ستجد أن كل ما تعانيه الأمة اليوم من فواجعَ ومواجعَ، وكل ما يصدمُها من نكبات وإحباطات، وكل ما يكاد لها من خبائث ومؤامرات مرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالأنبياء من قبلِه عشرات، وأكثر من أمثالها وأخطر.
ادرسْ وتفكَّر، وانظر وتدبَّر كيف واجهوا المؤامرات، وكيف ردُّوا على الاعتراضات، وكيف روَّضوا ثعالب البشرية وذئاب العالَم، واستطاعوا أن يجعلوهم مستأنسين يَلِينُون في كفِّ الأنبياء، مخبتين مطيعين بإذن الله الرحيم وعونه وتوفيقه، وهو ولي المؤمنين.
إن من الظلم للتاريخ أن نظنَّ أننا نواجهُ ما لم يواجهه أحدٌ، ونصادف ما لم يره أحد، ومن الإجحاف والتطاول أن نعتقدَ أننا نصنع ما لم يصنعْه قبلَنا أحدٌ، ونصلح ما لم يصلحه أحد، في سيرة الأنبياء - عليهم السلام - ما يجعلُنا ننكسر بعد أن ننبهر بتواضعهم الجم، وبذلهم الضخم، وجهادهم الحق، وصدقهم وتفانيهم وتجرُّدهم وتضحيتهم.
فيا صاحب القرآن، في قصص الأنبياء - عليهم السلام - علمٌ وخبرة، ويقين وبصيرة، فإياك أن تقرأها للتسلية، أو للثقافة والمعرفة المجردة، إني أنصحك حين تدخل القرآن لقراءة قصص الأنبياء - عليهم السلام - أن تتصوَّر أنك تُدخِل عقلَك كمادة خام إلى مصنعٍ لصناعة الرجال، فيدخل عقلك وقلبك، وفؤادك ولسانك كمادة خام؛ ليُصنَع كما صنع الله هؤلاء الأنبياء، فاحذر أن تتلهَّى بهذه القصص، أو أن تنشغل بغير فوائدها، أو أن تتتبع غير حلقاتها؛ لتفهم دينك، وتعرف أصلك وفصلك، ويستنير بها طريقك، ويشتد بها عودك؛ لتكون ابنَ الإسلام حقًّا، لتصنع له حاضره ومستقبله.. فيك الأمل وفي الله الرجاء.. أسأل الله - تعالى - ألاَّ يخيِّب فيه رجاءنا: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
فلا بد أن تعلمَ - يرحمك الله - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - أوحاه إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون منهاجًا لهذه الأمة الخاتمة، تسيرُ على نهجه وتترسَّم خطاه؛ وليكون دستورًا لها تحتكمُ إليه في كل شؤونها، فتجد فيه الهداية والرشاد، وتستروح في ظله الطمأنينة القلبية، والراحة النفسية.
• واعلم - رزقني الله وإياك العلم والفهم - أن القرآن كلام الله - تعالى - هو الزاد الروحي للمؤمنين، والفَيْض الذي لا ينقطع مَدَده للربَّانيين والصالحين؛ حيث يمدُّهم بالطاقات التي تؤهِّلهم لحمل الرسالة، ويزودهم بالحجج والبراهين التي تمكِّنهم من الثبات على هذا الدين، ومحاججة المجادلين، حتى تكون دائمًا كلمة الله هي العليا.
• واعلم - رزقني الله وإياك الهدى والهداية - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - الذي يأوي إليه المؤمن؛ لينهلَ من مَعِينه الصافي اليقينَ الذي يثبِّت قلبه، والهُدَى الذي يطمئن نفسه، والبراهين التي تُثلِج صدره.
• ثم اعلم - فتح الله مغاليق قلبي وقلبك لفهم كتابه - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - ترى فيه الإثارة النفسية عند الإخبار، حتى تتشوَّف النفس لما سيُلقَى عليها منه، وتتهيأ لقبوله، مثل قوله - تعالى - مثلاً: ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [إبراهيم: 9].
• واعلم - يسَّر الله لي ولك الخير، وصرف عني وعنك البلاء والشر - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - ترى فيه تعزيةَ النفس وتسليتها عمَّا ينزل بها من البلاء، حيث يبشِّر بالخير، فيسوقُ البشارة بين يدى البلاء؛ لتطمئنَّ النفس ويهدأ القلب، ويتقبَّل العبد المصيبةَ بالصبر والرضا، مثل قوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34].
• واعلم - رزقني الله وإياك الصدق والصواب - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - ترى فيه أنه يتناول الأمور العقدية بواقعية تتناسب مع الفطرة الإنسانية، وتتلاءم مع يُسْر العقيدة وسماحتها، انظر إلى قوله - تعالى -: ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 59، 60]، وانظر إلى الآيات التي بعدها.
• واعلم - استعملني الله وإياك في مرضاته - أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - يعالج المشكلات الاجتماعية بحلول مناسبة للظروف التي وقعت فيها، وهو يتولَّى تربية جيل سيؤول إليه أمر الحياة، انظر إلى قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [المجادلة: 2].
• ثم انتبه - أكرمني الله وإياك بالهمة العالية والبصيرة النافذة - أن من أبرز أساليب القرآن كلام الله - تعالى - لمعالجة مشكلات النفوس وأدوائها، ومشكلات التعامل مع الخلق وخطورتها، وخصوصًا إذا كان الأمر دعوة إلى الله - تعالى - ذَكَرَ قصص الأنبياء؛ يقول - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]؛ فاحرص - يا صاحب القرآن - على إتقان تجويد كلام الله - تعالى - ثم حلِّق بقلبك في سماء علومه، تعلم وتدبر، وافهم واعمل، وادعُ إلى الله - تعالى - على بصيرة، ولا تجرِّب، ولا تشك ولا تتردد، تكنْ من الفائزين.
فالقرآن الكريم كتاب الله الخالد المعجِز، وهو كلام الله - تعالى - المنزَّل على عبده ورسوله وخاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الكتاب الذي تأذَّن الله بحفظه من أن يغيَّر أو يبدَّل، أو يزاد فيه أو ينقص منه؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وهو الكتاب الذي تلقَّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - وجبريلُ من ربِّ العزة - تبارك وتعالى - ثم علَّمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه الأطهار - رضي الله عنهم - وهو الذي جمعه الصدِّيق - رضي الله عنه - بإشارة الفاروق - رضي الله عنه - ودوَّنه ذو النُّورَين عثمان - رضي الله عنه - وأجمعتِ الأمة المسلمة عليه، وهو الكتاب الذي بين أيدينا في مشارق الأرض ومغاربها، المحفوظ بين دفتي المصحف من الحمد إلى الناس.
هذا القرآن العظيم هو دستور المسلمين وشريعتهم وصراطهم المستقيم، وهو حبل الله المتين، وهدايتُه الدائمة، وموعظته إلى عباده، وآيةُ صدقِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - الباقية إلى آخر الدنيا، وهو سبيل عزِّ المسلمين في كل العصور والدهور، ولَمَّا كان القرآن كذلك، تعبَّدنا الله - تعالى - بتلاوته، وجعل خيرنا مَن تعلَّمه وعلمه؛ كما في صحيح البخاري وغيره.