نعمة القرآن
الحمد لله , نحمده , ونستعينه ....
عباد الله : اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
عاش الناس في حقبة غابرة من التاريخ حياة ليس فيها من معنى الحياة إلا الحركة ، لبسوا فيها كل قبيح , وركبوا فيها كل مخالف ، أعاروا عقولهم للأوهام ، وأموالهم للكهان ، عبدوا الأوثان , وعظموا الأصنام ، شربوا الخمور , وعاقروا الفجور ...
تتصرم عليهم السنون والأعوام ، وتنطوي الشهور والأيام ، وهم في سباتهم غافلون , وفي غيهم غارقون .
حتى ملَّ كثير منهم الحياة – وحق لهم ذاك – فصار الموت أمنية تطلب , وغاية تنشد , فـ( يا موت زر: إن الحياة ذميمة ) .
يقول قائلهم :
ألا موت يباع فأشتريـه *** فهذا العيش ما لا خير فيـه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي *** يخلصني من العيش الكريـه
إذا أبصرت قبراً من بعيد *** وددت أنني مما يـــليـه
ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على أخيــه
وهكذا تكون الحياة في كل عصر إذا غاب الوحي عنها .
ظل الناس على هذه الحال حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم , بالهدى ودين الحق ، وأنزل معه الكتاب المبين , والصراط المستقيم ، شفاء لكل داء , ورافع لكل بلاء ، فأنار الله به العقول , وشرح به الصدور ، فقوم منهم ما اعوج ، وعدل فيهم ما انتكس ، حتى صار القوم من خير أمة اخرجت للناس ، إنه كتاب الله العظيم , والنور المبين .
لما تشربت نفوسهم هذا المعين ، أخرجوا من نفوسهم كل باطل , وقبيح .
وكيف لباطل , أو شهوة , أو نزوة أن تنازل كلام العظيم ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) .
أمدهم هذا الوحي بقوة الرأي , والبدن ، و بنور العقل , والبصر ، وبراحة النفس , وبهجة الصدر ، كشف عنهم ستار الغفلة , فأبصروا الحق عياناً ، وعرفوا المقياس بين الدنيا والاخرة , وبين الله العظيم , وقدرته , وعونه , وبين غيره من البشر , فاختاروا لأنفسهم التجارة الرابحة .
إن هذا الوحي جعل من ابن مسعود القصير , النحيل , الخادم المطيع ، الذي لا يملك رد جملة أو حرف على سيده ، جعله أسداً هصوراً , يقف على ساحة كفار قريش معلناً التحدي والمواجهة .
إن هذا الوحي جعل من مصعب بن عمير أجمل , وأغنى , وأرفه شاب في مكة ، جعله سفيراً , وداعياً , وقائداً ينافح عن حياض الدين , ويموت في ثرى المعارك , وساحات القتال , مسطراً أروع البطولات , وأجمل التضحيات .
إن هذا الوحي جعل من بلال العبد الحبشي , المستضعف ، جعل منه صخرة لا تتزحزح , وأرغم أنوف كفار قريش .
إن هذا الوحي جعل من ابن الخطاب القوي الشديد ، جعل في خديه خطان من البكاء .
إن هذا الوحي غير كثيراً وكثيراً من نفوس القوم , وأحوالهم ، ولذا دارت معركة الكفر عليهم ، ولكن هيهات هيهات أن يهزم جند الله ( وإن جندنا لهم الغالبون ) .
لقد بذل القوم كل ما يملكون في سبيل المحافظة على هذا الدين ، عذبوا , وهجروا , ولسان الحال ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) .
عباد الله : إن السر في هذا الحدث الأكبر في تاريخ البشرية ، هو سر عظيم , نغفل عنه , كما قال تعالى ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) .
إنه سر القران العظيم , الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه , ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد .
هذا الكتاب العظيم الذي غفلنا عنه , وهجرناه , في واقع مؤلم , هو في أمس الحاجة إلى منقذ صادق , يأخذه بهذا الحبل المتين .
إن الانسان اليوم بشتى أشكاله , وديانته , يعيش واقعاً مؤلماً ، ووضعاً مخزياً .
وإن العالم اليوم يرزح تحت سياسة الغاب ، و يتخبط تخبط المجنون التائه .
عباد الله : لقد كان واقع القوم الذين نزل فيهم القران أسوأ حالاً من واقعنا اليوم من جهة ، ذلك أن الله نظر إلى أهل الأرض , فمقتهم , عربهم , وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب. واليوم في الأمة خير كثير .
ولقد كان القوم الذين تشربوا الوحي , وعملوا به لم يكتمل نزوله بعد ، وإنما هو آيات تنزل بين الفترة والأخرى , تبشر وتصبر .
ومع هذا الحال , من عدم اكتمال الوحي ، وسوء الحال , إلا أن الوحي أثر تأثيره البالغ في مجرى الحياة ، و السر في ذلك هو التفهم , والتدبر , والعمل بهذا الوحي ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) .
نعم عباد الله : إن القضية ليست في تلاوة القران , ولا في حفظه , وإنما هو في تدبره , وفهمه , والعمل به .
فالقران ليس كتاب معلومات , وثقافات , وتاريخ , وفقه ، وإنما هو مادة حياة , تسري في القلب فتوقظه , وفي العقل فتنيره ، وفي الجسد فترفعه عن سفاسف الدنيا , وتطير به في آفاق السماء .
هكذا تعامل القوم مع كتاب الله ، وهكذا أثر فيهم .
عن عبدالله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء : كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القران ؟ قالت : تدمع أعينهم , وتقشعر جلودهم , كما نعتهم الله .
وأما الحال اليوم فنخشى أن نكون كما قال محمد بن السماك : كم من مذكر بالله ناسٍ لله! وكم من مخوف بالله جريء على الله! وكم من داعٍ إلى الله فارٍ من الله ، وكم من تالٍ لكتاب الله منسلخٍ من آيات الله . إلا من رحم الله , والله المستعان .
إن واجب الدعاة اليوم : قيادة الناس بالوحيين , وإلا فالنتائج ضعيفة ، والتربية هزيلة .
إن من غير اللائق بخلفاء الرسل , من العلماء والدعاة : الانشغال بالمهاترات السياسية ، والمطارحات الفكرية , والإغراق في القضايا الزوجية , والاجتماعية ، والتصدر للقضايا الأدبية والصحفية .
إن واجبهم الأساس سوق الناس بالكتاب والسنة ، لا أن يكون الكتاب والسنة حاشية في قالهم , ومقالهم .
المراد من دعاة الإسلام : التفريق بين المهم والأهم ، و المباح , والحاجة الملحة .
إن الواجب : رفع الناس ليتذوقوا حلاوة الوحي ، لا النزول لرغبات الناس ، وتمييع التربية , فإن كان ذلك , فهي خيانة عظمى لمقام الرسالة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ) .
الحمد لله : تفرد بكل كمال , وتفضل على عباده بجزيل النوال .
له الحمد في الأولى , والآخرة , والحال , والمآل .
وأشهد ألا إله إلا الله , وحده لا شريك له , تقدس عن الأشباه , والأمثال .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , المبعوث بكريم الخصال , ورفيع الخلال .
صلِّ اللهم عليه , وعلى الأصحاب , والآل , خير صلاة دائمة إلى يوم المآل . أما بعد :
عباد الله : لقد وصف الله كتابه بأجمل الصفات ، فسماه الله ( هدى ) و ( نور ) و ( رحمة ) و( موعظة ) و ( روحاً ) و ( ذكرى ) .
فلا هدى إلا بالقران ، ومن ابتغى الهدى بغيره أضله الله .
ولا بصيرة ,ولا نور إلا بهدي القران ، ومن ابتغى الصواب بغيره أضله الله .
ولما اعتاض الفلاسفة الأذكياء عن هديه إلى فلسفات البشر أتوا بالعجائب , والتناقضات .
ولا موعظة إلا به ومنه ، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( فذكر بالقران من يخاف وعيد ) ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) ( قل إنما أنذركم بالوحي ) .
وقد سماه الله روحاً ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) .
فالقران كالروح للجسد ، فمن هجر القران فهو ميت ، كما قال تعالى ( أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت .
عباد الله : إن هذا القران دستور أمة , ومنهج حياة ، فكل ما يحتاجه الفرد , والأسرة , و المجتمع , والامة , في العلوم الشرعية , والاجتماعية , والتربوية , والسياسية , وغيرها , موجود فيه بأكمل الطرق , وأحسن النهج ، قال تعالى ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق و أحسن تفسيراً ) .
عباد الله : إنها دعوة صادقة مخلصة إلى العودة لهذا الكنز العظيم .
دعوة لكل نفس ظماء اثقلتها الهموم , والغموم .
دعوة لكل روح تائهة في أودية الضلال .
دعوة لكل نفس دنفة , مصابة ، دونكم كتاب الله ، اتلوه ليلاً ونهاراً , وتدبروه , والجزاء عظيم ، والنتائج محققة .
قال ابن مسعود : إن هذه القلوب أوعية , فاشغلوها بالقران , ولا تشغلوها بغيره .
هي دعوة لكل موجه , وداعية الى الله لا تعتض بالوحيين .
دعوة لسياسات الدول المسلمة : نحن قوم أعزنا الله بالإسلام , فمتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .
دعوة لهذا العالم المضطرب : لا نجاة لكم إلا بالوحي ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ابداً : كتاب الله , و سنتي .
ألا وصلوا , وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ....