خطبة الجمعة عن ليلة النِّصْف مِنْ شَعْبانَ
بِسمِ اللهِ الرَّحمـنِ الرَّحِيم
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ
الحَمْدُ للهِ باعِثِ الرُّسُلِ والأَنْبِياءِ رَحْمَةً لِلناسِ بِالنُّورِ الْمُبِينِ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِنا محمَّدٍ أَشْرَفِ الـمُرْسَلِينَ وعَلى ءالِهِ الطاهِرِينَ وصَحابَتِهِ الخِيرَةِ الْمُنْتَجَبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ أَرْحَمُ الراحِمِينَ الأَحَدُ الْمُنَزَّهُ عَنْ شَبَهِ الـمَخْلُوقِينَ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ وسَيِّدُ وَلَدِ ءادَمَ أَجْمَعِين.
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَشْكُرُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيْه، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ولا مَثِيلَ ولا شَبِيهَ ولا مِثْلَ ولا نِدَّ لَه، ولا حَدَّ ولا جُثَّةَ ولا أَعْضاءَ لَه، أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وحَبِيبَنا وعَظِيمَنا وقائِدَنا وقُرَّةَ أَعْيُنَنا محمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ وصَفِيُّهُ وحَبِيبُه، صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدٍ وعَلى ءالِهِ وصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطاهِرِين.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فَٱتَّقُوهُ يَا أُولِي الأَلْباب. ها قَدْ أَتانا إِخْوَةَ الإِيمانِ النِّصْفُ مِنْ شَهْرِ شَعْبانَ أَعادَهُ اللهُ عَلَيْنا وعَلَيْكُمْ وعَلى الأُمَّةِ بِالخَيْرِ والبَرَكَةِ، فَحَرِيٌّ بِنا أَنْ نَتَذاكَرَ مَعًا بَعْضَ ما جاءَ مِنْ أَعْمالِ الخَيْرِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْها نَبِيُّنا الْمُعَظَّمُ في النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ لَعَلَّ اللهَ يَغْفِرُ لَنا ويَرْحَمُنا فَلا يَدْرِي أَحَدُنا أَيَّ الأَعْمالِ الَّتِي تُقْبَلُ مِنّا فَتَكُونُ السَّبَبَ في النَّجاةِ مِنَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَة.
وقَدْ رَوَى ابْنُ ماجَه عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا اهـ فَأَرْشَدَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِلى قِيامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ وصِيامِ نَهارِه، والـمُرادُ بِاللَّيْلَةِ في هَذا الحَدِيثِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَسْبِقُ يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ وهُوَ الخامِسَ عَشَرَ مِنْهُ فَقَدْ حَثَّنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى قِيامِ لَيْلَتِهِ بِالصَّلاةِ فَإِنَّ الصَّلاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شاءَ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ ومَنْ شاءَ اسْتَقَلّ. وحَثَّنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَيْضًا عَلى الدُّعاءِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَفِي رِوايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ فَإِنَّ اللهَ تَعالى يَقُولُ أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ أَلاَ مِنْ مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ أَلاَ مِنْ سائِلٍ فَأُعْطِيَهُ أَلاَ كَذا أَلاَ كَذا حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ اهـ ومَعْلُومٌ أَحِبَّتَنا أَنَّ كَلامَ اللهِ لَيْسَ حَرْفًا ولا صَوْتًا ولا لُغَةً لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وفي الدُّعاءِ الخَيْرُ العَظِيمُ قالَ عَزَّ مِنْ قائِلٍ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[سورة البقرة / 186] ومَعْنَى قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أَيْ عِلْمًا وإِجابَةً لأَنَّهُ سُبْحانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ القُرْبِ بِالْمَسافَةِ فَلا يَجُوزُ اتِّصافُهُ بِها.
وٱعْلَمُوا إِخْوَةَ الإِيمانِ أَنَّ ما شاءَ اللهُ في الأَزَلِ حُصُولَهُ لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ وما لَمْ يَشَإِ اللهُ في الأَزَلِ حُصُولَهُ لا يَحْصُلُ وأَنَّ اللهَ تَعالى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ لأَنَّ التَّغَيُّرَ مِنْ صِفاتِ الـمَخْلُوقاتِ فَلا تَتَغَيَّرُ مَشِيئَةُ اللهِ بِدَعْوَةِ داعٍ ولا صَدَقَةِ مُتَصَدِّقٍ. وأَمّا ما وَرَدَ في الحَدِيثِ لا يَرُدُّ القَضاءَ إِلاَّ الدُّعاءُ اهـ فَالـمُرادُ بِهِ ما كانَ مِنَ القَضاءِ الـمُعَلَّقِ فَإِنَّ القَضاءَ مِنْهُ ما هُوَ قَضاءٌ مُعَلَّقٌ ومِنْهُ ما هُوَ قَضاءٌ مَحْتُوم، والقَضاءُ الـمُعَلَّقُ هُوَ كَأَنْ يَكُونَ مَكْتُوبًا في صُحُفِ الـمَلائِكَةِ أَنَّ فُلانًا يَحْصُلُ لَهُ كَذا مِنَ البَلاءِ ويَسْتَمِرُّ ذَلِكَ إِلى مُدَّةِ كَذا إِلاّ أَنْ يَدْعُوَ بِارْتِفاعِ البَلاءِ عَنْهُ فَإِنَّهُ إِنْ دَعا ارْتَفَعَ عَنْهُ البَلاءُ فَوْرًا بَعْدَ الدُّعاءِ وإِلاّ اسْتَمَرَّ إِلى تِلْكَ الـمُدَّةِ أَوْ أَنَّ فُلانًا إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ بَرَّ والِدَيْهِ يَعِيشُ إِلى المِائَةِ أَوْ يُعْطَى كَذا مِنَ الرِّزْقِ والصِّحَّةِ وإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَعِيشُ إِلى السِّتِّينَ ولا يُعْطَى كَذا مِنَ الرِّزْقِ والصِّحَّةِ، واللهُ عالِمٌ بِما يَكُونُ مِنَ الأَمْرَيْنِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ، وشاءَ في الأَزَلِ حُصُولَ ما عَلِمَ حُصُولَهُ فَلا تَتَغَيَّرُ مَشِيئَتُهُ تَعالى ولَيْسَ مَعْناهُ أَنَّ تَقْدِيرَ اللهِ الأَزَلِيَّ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى فِعْلِ الشَّخْصِ أَوْ عَلى دُعائِهِ بَلِ اللهُ عالِمٌ ماذا سَيُصِيبُ هَذا الإِنْسانَ وهَلْ يَدْعُو أَوْ لا يَدْعُو. ويُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ شاءَ اللهُ لَهُ الـمَوْتَ عَلى غَيْرِ الإِسْلامِ فَلا يَمُوتُ إِلاَّ عَلى غَيْرِ الإِسْلامِ ومَنْ شاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَمُوتَ عَلى الإِيمانِ لا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ عَلى الإِيمانِ ولا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِدُعاءِ داعٍ ولا بِتَصَدُّقِ مُتَصَدِّقٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ بِرِّ والِدٍ.
وقَدِ اعْتادَ أُنَاسٌ الاِجْتِماعَ في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ لِقِراءَةِ دُعاءٍ فِيهِ يُسَمُّونَهُ دُعاءَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ وهُوَ لَيْسَ ثابِتًا عَنْ رَسُولِ اللهِ ولا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ وأَوَّلُهُ “يا مَنْ يَمُنُّ ولا يُمَنُّ عَلَيْهِ” وفِيهِ عِباراتٌ يُوهِمُ ظاهِرُها أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ وتَقْدِيرَهُ الأَزَلِيَّ يَتَغَيَّرَانِ فَمَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ العَقِيدَةَ قَدْ لا يَفْهَمُ هَذِهِ العِباراتِ عَلَى وَجْهِها فَيَظُنُّ أَنَّ اللهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ لِمَنْ دَعا بِذَلِكَ الدُّعاء، وٱعْتِقادُ تَغَيُّرِ مَشِيئَةِ اللهِ خُرُوجٌ مِنَ الإِسْلامِ والعِياذُ بِاللهِ تَعالى. والعِبارَةُ الـمَقْصُودَةُ هِيَ قَوْلُهُمْ في الدُّعاءِ الـمَذْكُورِ “إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي في أُمِّ الكِتابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَٱمْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقاءِ وأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا” فَهَذِهِ العِبارَةُ قَدْ يَفْهَمُ مِنْها شَخْصٌ يا رَبِّ إِنْ كُنْتَ شِئْتَ لِي الشَّقاءَ فَغَيِّرْ مَشِيئَتَكَ وهَذا الفَهْمُ باطِلٌ لأَنَّ اللهَ تَعالى لا يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بَلْ صِفاتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لاَ يَطْرَأُ عَلَيْها تَحَوُّلٌ ولا تَغَيُّرٌ، وأَمّا إِنْ كانَ يَفْهَمُ مِنْها شَخْصٌ يا رَبِّ إِنْ كانَ حالِي الآنَ حالَ الأَشْقِياءِ الغارِقِينَ في الـمَعاصِي فَغَيِّرْ حالي إِلى حالِ السُّعَداءِ الأَتْقِياءِ فَهَذا الفَهْمُ سَلِيمٌ لا ضَرَرَ فِيهِ فَإِنَّنا كُلَّنا نَسْأَلُ اللهَ تَعالى أَنْ يَتَوَفّانا عَلى حالِ السُّعَداء. لِذَلِكَ ولأَجْلِ الخَطَرِ الكامِنِ في إِساءَةِ فَهْمِ هَذا الدُّعاءِ أَحُثُّكُمْ إِخْوَةَ الإِيمانِ عَلَى الدُّعاءِ بِغَيْرِهِ ولا سِيَّما بِالأَدْعِيَةِ الثابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وما أَكْثَرَها مِنْها ما هُوَ مَذْكُورٌ في كِتابِ رِياضِ الصّالِحِينَ ومِنْها ما هُوَ مَذْكُورٌ في غَيْرِه.
صُومُوا إِخْوَةَ الإِيمانِ يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ وقُومُوا لَيْلَهُ فَقَدْ وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَطَّلِعُ اللهُ عَلى خَلْقِهِ في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشاحِنٍ اهـ ومَعْناهُ أَنَّ اللهَ تَعالى يُخَصِّصُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ بِهَذِهِ الْمِيزَةِ أَنَّهُ يَطَّلِعُ إِلى خَلْقِهِ .. أَيْ يَرْحَمُهُمْ فِيها بِرَحْمَةٍ خاصَّةٍ وإِلاَّ فَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلى خَلْقِهِ لا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خافِيَةٌ .. فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ مَنِ اسْتَثْنَى أَيْ يَغْفِرُ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ ولِبَعْضٍ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ وأَمّا الكافِرُ فَلا يَغْفِرُ لَهُ وكَذا الْمُشاحِنُ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ مُسْلِمٍ آخَرَ عَداوَةٌ وحِقْدٌ وبَغْضاءٌ لأَمْرِ الدُّنْيا، فَلْيُصْلِحْ كُلٌّ مِنّا ما بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخِيهِ الـمُسْلِمِ ولْيَعْفُ ولْيَصْفَحْ ولْيُخْرِجْ ما في قَلْبِهِ مِنْ غِلٍّ قَبْلَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُنا ويَغْفِرُ لَنا ذُنُوبَنا.
هَذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم.