الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (1).
لقد حرص ديننا الإسلامي على تكوين مجتمع مترابط متحابب، يعيش في جوٍّ من الألفة والمحبة، حيث عمل على توفير أسباب السعادة وتجنب أسباب الشقاء، وقد جمع الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الإحسان إلى الجار مع عبادة الله وبر الوالدين والأقربين في دلالة واضحة على أهميته، لذلك فقد أوصى الإسلام بالجار خيراً في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وأوجب له حقوقاً كثيرة ، تتعدد وتتنوع تبعاً لنوع العلاقة والرابطة التي تجمع الإنسان بجاره ، كما جاء في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث يقول : (الجيران ثلاثة : جار له حق واحد ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، فأما الجار الذي له حق واحد فهو الجار الكافر ، له عليك حق الجوار ، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم ، له حق الجوار والإسلام ، وأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحمٍ ، له حق الجوار و الإسلام والرحم )(2)، وجاء في حديث آخر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت) (3).
ومن المعلوم أنَّ مِنْ أهم ما عُني به الإسلام حق الجوار ورعاية حرمات الجار ، حرصًا على سلامة النسيج الاجتماعي ، وحماية له من الضعف والوهن، ليكون المجتمع المسلم كما أراده – صلى الله عليه وسلم – كالجسد الواحد ، فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عوناً ، وفي الرخاء أخاً ، يحزن لحزنه ، ويفرح لفرحه ، ينفس كرباته ، ويقضي حاجاته ، ويهنئه إذا أصابه خير ، ويدفع عنه الأذى والمكروه ، لما ورد في الحديث الشريف عن معاوية بن حيدة- رضي الله عنه- قال : قلت يا رسول الله ما حق الجار عليّ ؟ قال : " إن مرض عدته ، وإن مات شيعته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا افتقر عدت عليه ، وإذا أصابه خير هنأته ، وإذا أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهةً فأهد له ، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده" ( 4).
وسار المسلمون على هدي القرآن الكريم وسنة الحبيب – صلى الله عليه وسلم – فأحسنوا إلى جيرانهم ، وعاملوهم معاملة حسنة ، وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في الآخرين ، وكانت سببًا لإقلاعهم عن المعاصي والذنوب ، فقد ورد في كتب السيرة والتاريخ أنه كان للإمام أبي حنيفة جار إسكاف بالكوفة، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جاء الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دبَّ الشراب فيه، غَنَّى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، ومن المعلوم أنا أبا حنيفة كان يصلي الليل كله، وذات يوم فقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس ( رجال الشرطة) منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر وركب بغلته، واستأذن على الأمير فأذن له ، وقال أقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، ولم يزل الأمير يُوسّع له من مجلسه، وقال ما حاجتك يا إمام؟ قال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال ، آمل أن يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم ، وكل من أُخذ بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة بغلته ، والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه ، فقال: يا فتى أضعناك قال: لا، بل حفظت ورعيت ، جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه من أعمال سيئة".
كما وحذرنا الإسلام من عدم رعاية حق الجار ، فضلاً عن الإساءة إليه ، لما ورد في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل : يا رسول الله لقد خاب وخسر ، من هذا ؟ قال : من لا يأمنُ جاره بوائقه، قالوا : وما بوائقه ؟ قال : شرُّه) ( 5)، وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضا : ( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم ) (6)، وروي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : (من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني ، فقد آذى الله) (7 ).
وذكرت كتب الحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- ذُبحت في بيته شاه فقال : أهديتم لجارنا اليهودي منها ؟ قالوا: لا، قال : أهدوا إليه ، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (
.
ولا يجوز للجار أن يظلم جاره ، أو يبطش به ، أو يسيء إليه ، لذلك يجب على أفراد المجتمع وقتئذ أن يقفوا مع المظلوم والمعتدَى عليه ضد الظالم، لما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : (جاء رجلٌ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشكو جاره ، فقال له : اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثاً ، فقال : اذهب فاطرح متاعك في الطريق، ففعل ، فجعل الناس يمرون ويسألونه، فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه ، فعل الله به وفعل ، وبعضهم يدعو عليه ، فجاء إليه جاره ، فقال : ارجع فإنك لن ترى مني شيئاً تكرهه) (9).
كما وجعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان لقوله– صلى الله عليه وسلم - : ( من يأخذُ عنِّي هذه الكلمات فيعمل بهنَّ أو يُعَلِّم من يعملُ بهنَّ؟ فقال أبو هريرة : قلت أنا يا رسول الله ، فأخذ بيدي فعدَّ خمساً فقال : اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ، وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مسلماً ، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب )(10).
وما من شك في أن الإحسان إلى الجار ومعاملته معاملة حسنة، ورعاية حقوقه وتحمل أذاه، يؤدي إلى حصول المحبة والألفة والمودة بين أفراد المجتمع ، فالجار لا يستطيع الاستغناء عن جاره في جميع الأحوال ، فمن حق الجار على جاره البـّر به ، وتقديم العون له في الشدة والرخاء، فيشاطره حزنه، ويفرح لما يسره.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – جعل الإحسان إلى الجار علامة على خيرية الإنسان وأمارة على صلاحه، من ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم - : " خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره" (11).
ومن الجدير بالذكر أن المسلم قد يكون معروفاً باستغراقه في عبادة الله ، فلا يمنعه من دخول الجنة ويدفعه إلى النار سوى إيذائه جاره ، فقد قيل للنبي – صلى الله عليه وسلم - : " إن فلانة تقوم الليل ، وتصوم النهار ، وتتصدق ، وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : لا خير فيها ، هي في النار "(12)،وقد يكون المسلم لا يؤدي من العبادة سوى الفرائض ، لكنه لا يؤذي جيرانه – أي لا يقسو على جيرانه بل يرحمهم – فيدخل الجنة ، قيل للنبي – صلى الله عليه وسلم - : " إن فلانة تصلي المكتوبة ، وتصوم رمضان ، وتتصدق بأثوار من أقط – أي صدقة هيِّنة – ولا تؤذي جيرانها ، قال : هي في الجنة "(13).
وهكذا يكون إيذاء الجار سبباً في دخول النار، والإحسان إلى الجار سببًا في دخول الجنة، وفي الموقف فضيلة من فضائل الإحسان إلى الجار ، وهي أن الجار إن عصى الله فيك ، فينبغي أن تطيع الله فيه ، كما قال الله عز وجل :{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (14).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
الهوامش :
1- سورة النساء الآية (36)
2- أخرجه الإمام البزار
3- أخرجه الشيخان
4-أخرجه الطبراني
5- أخرجه البخاري
6-أخرجه الطبراني
7- أخرجه ابن حبان
8- أخرجه الترمذي
9- أخرجه أبو داود
10- أخرجه الترمذي
11- أخرجه الترمذي
12- أخرجه أحمد والحاكم
13- أخرجه البخاري
14- سورة فصلت الآية (34)