[center]بسم الله , والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعد
فإن أكثر ما يدخل النار الأجوفان الفم والفرج ، وإن أكثر خطايا ابن آدم فى لسانه ،
ولذلك تخوفه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، وإذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان تقول : اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا ،
ولما سأل عقبة بن عامر رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما النجاة ؟ قال : " أمسك عليك لسانك و ليسعك بيتك وابك على خطيئتك " رواه الترمذى و حسنه
وكان ابن مسعود – رضى الله عنه – يقول : يا لسان قل خيراً تغنم ، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم , وفي الحديث : " من كان يؤمن بالله و اليوم الخير فليقل خيراً أو ليسكت "
والكلمة أنت تملكها فإذا تكلمت بها صرت أسيراً لها ، قال معاذ بن جبل – رضى الله عنه – قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول ؟ فقال : " ثكلتك أمك يا ابن جبل وهل يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " رواه ابن ماجه و الترمذى و صححه .
فحصائد الألسنة من أعظم أسباب دخول النار ، يستهين بها العبد ولا يبالى بها وهى أشبه بسبع إن أرسلته أكلك ، ولذلك قال ابن مسعود : والله الذي لا إله إلا هو ما شئ أحوج إلى طول سجن من اللسان , فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه ، مقبلاً على شأنه , فما عقل دينه من لم يحفظ لسانه .
وكتب عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – أما بعد : فإن من أكثر ذكر الموت رضى في الدنيا باليسير ، ومن عد كلامه فى عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ، و حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدرهم و الدينار ، وما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك فى سائر عمله .
والصمت يجمع للرجل فضيلتين السلامة فى دينه ، والفهم عن صاحبه ، هذا بالإضافة إلى أن فيه دوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول فى الدنيا ، وفى حسابه في الآخرة . فقد قال الله تعالى " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "
فالصَّمت في موضعه فضله كبير وذلك لكثرة آفات اللسان فى الخطأ ، والكذب و الغيبة و الرياء و النفاق و الفحش و المراء و تزكية النفس ، والخوض في الباطل ، والخصومة و الفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق ، وهتك العورات ،
فهذه آفات كثيرة لا تثقل على اللسان وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان ، ففى الخوض خطر وفى الصمت السلامة .
جاء رجل إلى سلمان الفارسي فقال : أوصني : قال لا تتكلم قال : لا يستطيع من عاش فى الناس أن لا يتكلم ، قال : فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت ، قال : زدني قال : لا تغضب ، قال : إنه ليغشاني ما لا أملكه ، قال : فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك ، قال : زدني ، قال : لا تلابس الناس ، قال : لا يستطيع من عاش فى الناس أن لا يلابسهم ، قال : فإن لابستهم فاصدق الحديث و أد الأمانة .
وقال عطاء ابن أبى رباح : يا ابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام ،
وكانوا يعدون فضوله ماعدا كتاب الله عز و جل أن تقرأه , وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر , أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لابد لك منها ، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التى أملي فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه " . و أشد الورع فى اللسان وهو أعصى الأعضاء على الإنسان ، وأعظم آلة يستخدمها الشيطان ، وقد تساهل الخلق فى الاحتراز عن آفاته و غوائله ، والحذر من المصائد و حبائله ،
فلا تعب فى إطلاقه ولا مؤنة فى تحريكه ، فكان لابد من مجاهدة فى صونه ، وفى الحديث : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " رواه الترمذى ،
فالمؤمن لا يكون صمته إلا فكراً ونظره إلا عبراً ونطقه إلا ذكراً ، ورأس مال العبد أوقاته فإن صرفها فى مالا يعنيه ولم يدخرها ثواباً فى الأخرة فقد ضيع رأس ماله ،
قيل للقمان الحكيم : ما حكمتك ؟ قال : لا أسأل عما كفيت ، ولا أتكلف ما لا يعنيني ،
وقال عمر – رضى الله عنه – لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل عدوك , وأحذر صديقك في القوم إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى ,ولا تصحب الفاجر فتتعلم منه فجوره ، ولا تطلعه على سرك ، و استشر فى أمرك الذين يخشون الله تعالى .
وكان من مضى بإحسان يكرهون فضول الكلام ، فعن ابن مسعود – رضى الله عنه – قال : أنذركم فضول كلامكم حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته ، وقال مجاهد : إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول : أبتاع لك كذا و كذا ، فيكتب كذاب .
وقال الحسن : " من كثر كلامه كثر كذبه ، ومن كثر ماله كثرت ذنوبه ,ومن ساء خلقه عذب نفسه ، وقال عمر بن عبد العزيز : إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة
وقال البعض : إذا كان الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكلم ، وقال ابن عمر : إن أحق ما طهر الرجل لسانه
ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال : لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها .
وقد يندرج العبد إلى الخوض فى الباطل كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر والفسق و الفجور ، قال تعالى : " وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره " و ذكر القرآن من أسباب دخول النار " وكنا نخوض مع الخائضين " و قد يتكلم الرجل بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخط إلى يوم القيامة ، و يدخل فى ذلك كلمات الاستهزاء بدين الله ، و السخرية من السنن وما يحدث فيما يسمى بالكوميديا من كلمات لإضحاك الناس على حساب المعانى الشرعية كالجنة و النار و الملائكة والأستهزاء بالعلماء ... قال تعال " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " وعلى العبد أن يعتني بكلماته عن المراء و الجدال المشكك فى الدين و الذى يقضى إلى الخصومة أو بغية الظهور والتعالي و ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، قال عيسى – عليه السلام - : من كثر كذبه ذهب جماله ، و من لاحى الرجال سقطت مروءته ، ومن كثر همه سقم جسمه ، ومن ساء خلقه عذب نفسه ،
وقال عمر – رضى الله عنه – : " لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث ، لا تتعلمه لتمارى به ، ولا لتباهى به ، ولا لترائي به ، ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ، ولا رضا بالجهل منه " , وورد في الحديث : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " رواه البخارى ، و الألد الخصم هو الذى يفجر فى خصومته ، قال البعض : إياك و الخصومة فإنها تمحق الدين ، روى أن عيسى عليه السلام – مر به خنزير فقال : مر بسلام فقيل : يا روح الله – أتقول هذا لخنزير ؟ فقال : أكره أن أعود لسانى الشر " , وفى الحديث " الكلمة الطيبة صدقة " رواه مسلم ، و قال عمر – رضى الله عنه – البر شئ هين ، وجه طليق و كلام لين " ،
ومما يذم في الكلام التشدق و التقعر والتفيهق و تكلف السجع وكل صور التصنع المذموم
و ذلك لما رواه أحمد : " إن أبغضكم إلى و أبعدكم منى مجلساً الثرثارون المتفيقهون المتشدقون فى الكلام " وقال صلى الله عليه و سلم : " ألا هلك المتنطعون " ثلاث مرات, و" ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ، فإياكم و الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " ، و للأسف فهذه مادة مزاح بعض الناس ، وفى الحديث " سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر " متفق عليه " و " من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه " قالوا يا رسول الله : كيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب الأخر آباه " رواه أحمد .
واللعن يكثر عند النساء بصفة خاصة و فى الحديث " إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " رواه مسلم . و معنى اللعن الطرد من رحمة ، وهذه خاتمة لا يعلمها إلا الله ،
وعلى قول الجمهور لا يجوز لعن المعين ، فإذا ورد الشرح بشئ فلا بأس بلعنه ، ولا يختلف اثنان على حرمة الغناء الفاحش و خصوصاً إذا صاحبته موسيقى ، والقبح أشد إذا انضاف إليه تهتك وتبرج النساء ، و كان العلماء يطلقون وصف المخانيث على المغنين ، أشباه الرجال ولا رجال ، و يقولون ترد الجارية المغنية بالعيب ، وكان القانون المصري حتى سنة 1938 م يرد شهادة المغنى والممثل ، أما الإنشاد فحسنه حسن و قبيحه قبيح ، وقد كان حسان بن ثابت – رضى الله عنه – ينشد بحضرة النبى صلى الله عليه و سلم ، و كان البعض كعبد الله بن رواحة و كعب بن مالك و كعب بن زهير من شعراء المسلمين الفحول ، و لكن لا ينبغى أن يكون بديلاً عن القرآن ، و شأن الشعر كشأن المزاح يستحسن فى موضعه و ان النبى صلى الله عليه و سلم يمزح ولا يقول إلا حقاً ، ولا داعى للمغالاة فيه حتى لا يسقط الوقار ،
قال محمد بن المنكدر قالت لى أمي : يا بنى لا تمازح الصبيان فتهون عندهم ،
وقال سعيد بن العاص لابنه : يا بنى لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنى فيجترئ عليك وقال عمر بن عبد العزيز : اتقوا الله و إياكم و المزاح فإنه يورث الضغينة و يجر إلى القبيح ، تحدثوا بالقرآن و تجالسوا به ، فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال ، وقيل : لكل شئ بذور ، وبذور العداوة المزاح ,
وقد نهينا عن السخرية و الاستهزاء قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءً من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظالمون " فاحتقار الآخرين والاستهانة بهم والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك كل ذلك مذموم
وسواء تم بالكلام أو بالإشارة أو الإيماء ،
وفى الحديث " لا يدخل الجنة نمام " متفق عليه ، وما أكثر مجالس الغيبة والنميمة التي تتم على حساب لحوم البشر والعلماء، والبعض لا يحسن استغلال وقت فراغه ، والتعلل بالصدق في وصف عيوب الناس ، ونقل أخبار الوقيعة لا يشفع للإنسان ، قالوا : من نم لك نم عليك ، فالنمام ينبغى أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته ومن الناس من يكلم كل واحد بوجه
وبكلام يوافقه ، وهذا يطلق عليه اسم ذى الوجهين أو ذي اللسانين يجرى مع كل ريح ،
وكانوا يعدون ذلك من النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ,
ويتأكد ذم المدح إذا أضيفت الفتنة على الممدوح وكان المدح بالكذب , قال على – رضى الله عنه – لما أثنى عليه : اللهم اغفر لى ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني خيراً مما يظنون. وقال لآخر مدحه : تهلكني و تهلك نفسك ،
وقد لا يخلو الكلام من الغفلة عن دقائق الخطأ و كثرة السؤال فيما لا يترتب عليه عمل للقلب و الجوارح .....
هذه بعض حصائد الألسنة ذكرناها باختصار وإجمال لتكون منك على بال ، والواحدة منها قد تتسبب فى عطب العبد وهلاكه فكيف إذا انضافت إليها الأخريات ؟! ، و كلها أشبه بحيات و عقارب يساكنها العبد ، فإن تنجو منها تنجو من ذى عظيمة و إلا فإنى لا إخالك ناجياً ، فاستعن بالله و تدبر قوله سبحانه " إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " وقوله جل و علا " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً "
قال الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذى عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت – أقلل أو أكثر – حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت فى عنقك معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً " اقرأ كتابك " فقد عدل – و الله – من جعلك حسيب نفسك