الحمد لله رب العالمين، إياه نعبد وإياه نستعين، لا شريك له، له الملك مقدر الخير والشر، مدبر الأمر يقضي بحق، ويفصل بعدل، والصلاة والسلام على المبلغ للحق والهادي إليه النبي الأمي محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه أما بعد ..
فإن مما لا يُختلف فيه أن الله جعل الحكم إليه، بل جعله عبادة لا تؤخذ إلا منه، ولا تُصرف إلا له، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}وقال: {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فبعد بيانه سبحانه للحكم وأنه هو الحق الذي به قوام الدين والدنيا قال تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي لا يعلمون صلاحه ودقة إحكامه وحسن عاقبته لهم.
وقد وردتني أسئلة كثيرة حول الاستفتاء على الدستور المصري المعروض هذه الأيام (غرة صفر ١٤٣٤ هـ - الموافق: ديسمبر ٢٠١٢ م) وقد نظرت فيه، ورأيت ما حمله من حقٍ وباطلٍ، ثم عرض الحكومة المصرية الدستور للاستفتاء بين الناس لأجل قبوله أو رفضه، والحديث حول هذا الدستور والتصويت عليه من جهات:
أولاً : أن الدستور لو كان حقاً تاماً لا يشوبه الباطل، فمواده على نوعين:
النوع الأول: نوع قضى الله فيه: فهذا لا يحل عرض مواده أصلاً على الناس لتكون مداولةً للقبول والرفض بين المسلمين، وكأن اختيار الناس يمضيها أو يمنعها، فرأيهم الحَكَم على حكم الله، فالله يقول:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
وكل صوت مخالف لما قضى الله فهو من الأهواء قال تعالى
: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} والميل لأي قولٍ يخالف حكم الله فتنة عظيمة لقوله تعالى:
{واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
ومن عرض حكم الله المنزّل للاختيار وهو مُتيّقن أن أكثر الناس ستأخذ به، وليس له اختيار في إلزامهم به إلا بواسطة عرضه على الناس، وذلك لضعف
الحاكم، فيُريد أن يتخذ عَرْضه للاختيار جسراً وسبيلاً للإلزام به بعد ذلك فقد يُعذر في حال الضعف الشديد وخوف فوات الحق المتيقّن غلبته وتمكينه بمثل هذه الوسيلة وحدها.
ويسوغ أيضاً تمكين الحق بالإحالة إلى ما يوافق الحق الذي أنزله الله كإرجاع الناس إلى الفطرة الصحيحة غير المبدلة بقصد إقناعهم وإلزامهم بالحق، ومثل هذا إرجاع النبي صلى الله
عليه وسلم اليهود إلى التوراة بقصد إقناعهم بموافقة القرآن ولزوم حكمه فيهم، مع أن الرجوع إلى التوراة والإنجيل مستقلاً والدعوة إليه مما نهى الله عنه ونبيه صلى الله عليه وسلم،
ولكن لما كان الإرجاع لليهود وهم على كفر، لينزلوا على حكم الله في الرجم الموافق لما في التوراة، كما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال:
لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم
(فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين)
فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة.
النوع الثاني: مواد مسكوت عنها لم يقض الله فيها بشيء، فهذه للحاكم وللمحكوم عرضها للاستفتاء والقبول والرفض، وللحاكم أن يتفق مع المحكوم على أن لا يُقبل من هذه المواد إلا ما اتفق أكثر الناس عليه سواءٌ سموا ذلك ديمقراطيةً أو شورى أو مصالحة، ما لم يُخالف مقصداً من مقاصد التشريع في الإسلام .
ثانياً: أن الدستور المصري الذي يُعرض اليوم للاستفتاء تضمّن مواد مناقضة للإسلام في ظاهرها، ووضع هذه المواد اختياراً بلا إكراه كفر، لأن هذا تشريع وحكم من دون الله، ومنازعة صريحة لله في حقه في الحكم بين عباده، وبهذا كفر بنو إسرائيل حيث جعلوا حكم التحليل والتحريم للأحبار والرهبان،
فما أحلوه فهو
حلال ولو حرمه الله، وما حرموه فهو حرام ولو أحله الله، وفيهم أنزل الله قوله تعالى:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
سمى الله فعلهم ذلك شركاً، وجعل الأحبار والرهبان أنداداً له، وذلك أن كفرهم كان في الحكم والتشريع، كما جاء في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب قال: فسمعته يقول
: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} قال: قلت: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال:
(أجل! ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم).
والفرق بين بني إسرائيل ومن يخالف حكم الله بحكم الأغلبية أن أولئك حكّموا الأحبار وهؤلاء حكموا أكثر الناس، والكل جعل أنداداً من دون الله، وصرف حق الله لغيره .
ثالثاً: أن الكفر دركات كما أن الإيمان درجات، فقد بين الله أن الكفر على مراتب كما في قوله تعالى:
{إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم}وقال: {إنما النسي زيادة في الكفر} ولا يجوز إقرار الكفر بجميع أنواعه، ولا وصفه بالحق، لأن هذا تبديل.
وفي مصر اليوم يوضع دستور جديد، تضمنت مواده الكثيرة متناقضات من الخير والشر والحق والباطل والإيمان والكفر، وكانوا قبل ذلك على دستورٍ أشد
كفراً وظلماً وحيدة عن الإسلام، ويَعترض كثيرٌ من أهل الباطل في مصر على ما تضمنه الدستور الجديد من مواد خير وحق، وهم من أصحاب الأفكار المعارضة للإسلام جملة،
ويؤيدهم الغرب بنظامه العلماني، وأكثر الشرق المتحالف معه من الدول المنتسبة للإسلام، ولا تُعلم دولة تنتسب للإسلام أو للكفر أعلنت تأييدها لحكومة مصر الحديثة بدستورها
الحديث، ولا رضا على توجهها في تقليل الشر والكفر وإنقاصه، وكان الأمر في التصويت على الدستور حتماً بين قبوله أو رفضه، فإذا قُبل حُكِّم شريعة لمصر مع إمكان التدرج في
إصلاحه بعد ذلك، وإذا رُفض فالغالب أن لا يؤتى إلا بما هو أشد منه حيدة عن الإسلام.
وإذا كانت الحال على ما ذُكر فإن التصويت لعدم رفضه متأكد بشروط:
أولاً: أن يكون التصويت بنية رفض الكفر والشر الأشد الغالب وقوعه بعد رفض الدستور، لا بنية قبول ما يتضمنه من مخالفة عينية.
ثانياً: لا يكون قبول الدستور والتصويت له لازماً بعد ذلك للسكوت عن مواده المخالفه للإسلام،
بل يوافق عليه مع التصريح بمواضع المخالفة فيه بالقلم واللسان وغير ذلك من أنواع البيان، ومصاحبة ذلك ما وُجد الدستور حتى لا يؤخذ إقراره وقبوله مأخذ الرضا به فيظن العامة أنه
الحق الكامل، لسكوت أهل العلم عنه
وقبولهم له.
ثالثاً: استمرار النصح لمن يملك التغيير بعد ذلك بتتبع مواده المخالفة، الأشد فما دونها على سبيل التدرج والدعوة إلى تصحيحها حتى لا يظن الحاكم وأعضاء الحكم من نواب ووزراء وبرلمانيين أن التصويت إقرار للدستور وإنما هو دفع لشر أعظم، حتى لا تتبدل الشريعة بالسكوت.
والتصويت لعدم رفض الدستور دفعاً لكفرٍ أعظم يقع في المجتمع من المقاصد الضيقة التي تُقدر بقدرها ويحكمها الإحاطة بمعرفة حالها، فالله نهى نبيه عن سب آلهة المشركين حتى لا
يزدادوا كفراً فوق كفرهم لأن سب الله كفر فوق وثنيتهم قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}
فالكفر مراتب فإنزالهم من أعلاه إلى أدناه مع عدم تفويت الحق الذي جاء بالوحي ولزوم دعوتهم إلى الحق الكامل الذي أراده الله من مقاصد الشريعة، فمصر لم تكن على دستور
إسلامي سابق، ولم يكن النظام السابق يُراعي حكم الله وحدوده، فإنزال النظام من مرتبة عليا في المخالفة لحكم الله إلى ما دونه مع لزوم التصريح بوجوه المخالفة الباقية وحكمها في الإسلام من المقاصد المرعية.
أتم الله على أهل مصر نعمته ونصره وتمكينه، والله المعين والمسدد وحده.