الحمدُ لله خلَق الإنسانَ ولم يكن شيئًا مَذكورًا، وصوَّره فأحسَن صورتَه فجعله سميعًا بصيرًا، وأرسَل إليه رسلَه وأقام عليه حجَّته وهداه السبيلَ إمَّا شَاكرًا وإمّا كفورًا، أحمَده سبحانَه وأشكره شكرَ مَن لم يرجُ من غيرِه جزاءً ولا شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له إنّه كان حليمًا غفورًا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمَّدًا عبد الله ورسوله، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وعبد ربَّه حتى تفطّرت قدماه.
فكان عبدًا شكورًا، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه رجالٍ صدقوا ما عاهَدوا الله عليه فكان جزاؤهم موفورًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاةً وسلامًا وبركات دائمات رَواحًا وبُكورًا أما بعد :
اخوانى فى الله
يقذف الله سبحانه وتعالى النور في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، فتخرج من القلب ومضات تظهر على جوارحهم ، وتهديهم إلى الصراط المستقيم ، فيكون من أمامهم نوراً ، ومن خلفهم نوراً وعن أيمانهم نوراً ، وعن شمائلهم نوراً ، ومن فوقهم نوراً ، ومن أسفلهم نوراً ، وتكون كل حياتهم نوراً .
ولقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية أوصاف لهذه القلوب بأنها : تقية وجلة خائفة مشفقة ، ومطمئنة صابرة مرابطة ، ورقيقة لينة رحيمة ، ونقية سليمة طاهرة ، ومتآلفة متحابة متآخية ، ومهدية واعية يقظة حية .
يعيش أصحاب هذه القلوب بين الخوف من الله ، والرجاء في عفوه ومغفرته ، فهو كثير الذكر والدعاء والاستغفار ، أواب تائب ، يحب لقاء الله لأنه أحب الله ، تُقْبَض روحه وهي راضية مرضية يطير إلى الله بجناحين جناح الخوف وجناح الرجاء .
يحتاج المسلم إلى معرفة صفات هذه القلوب حتى يعمل ليكون منها ، ولقد وردت هذه الصفات في كتاب الله عز وجل ، وبَيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرحها أهـل الصلاح والتقوى من العلماء ، ودعا بها الداعون إلى الله بالقول والعمل والقدوة الحسنة .
وسوف نبين في هذا المقام هذه الصفات ، وإظهار ومضاتها لتثبيت قلوب المؤمنين على الحق ، ولإرشاد العاصين إلى طريق النور المؤدى إلى مرضات الله ، وندعوا الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الومضات هادية لقلوبنا إلى حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما يلى هذه الصفات .
قلوب المؤمنين تقية وجلة خائفة :- من صفـات المؤمنين كما ورد في القـرآن الكريم : إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ]الأنفال: 2[ فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى : وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ]الحج: 34-35[ ، هـؤلاء المؤمنـون وصفـهم الله بقـولـه : إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ]المؤمنون : 57-60[ ولقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الأخيرة بقوله :" الذين يصلون ويصومون ويتصـدقون وهم يخافـون ألاّ يتقبـل الله منهم " (رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها) ، ومن شدة خشيتهم من الله عز وجل نجدهم يسارعون إلى عمل الخيرات ويخافون أن لا يتقبل الله منهم ذلك ، وفي هذا المقام يقول الحسن البصري : " إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة ، وإن الكافر جمع إساءة وأمنا " (تفسير ابن كثير جزء 3 صفحة 237)
ولقد ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنـه قوله : " والله لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة " ، كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لو قيل أن كل الناس يدخلون الجنة إلاّ واحداً ، لكنت أنا هذا الواحد " ، وهو من المبشرين بالجنة .
وعلى المسلم التقي أن يسارع في عمل الخيرات ويدعـو الله خوفـاً وطمعـاً كما ورد في قولـه تبارك وتعالى : تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ]السجدة : 16[ ، وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الصحابة ، تأثرت قلوبهم وأدمعت عيونهم ، فعن أحد الصحابة رضي الله عنه أنه قال
وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وأدمعت العيون ) (رواه أحمد) .
قلوب المؤمنين مطمئنة صابرة مرابطة :- من صفات القلوب المؤمنة : الاطمئنان بالله ، صابرة عند الشدائد ، ثابتة مرابطة عند الابتلاءات ، لا ترتاب ولا تنحرف ولا تضل ولا تضجر ، زادها في ذلك كثرة الذكر والدعاء ، ولقد بيَّن القرآن الكريم ذلك فقال الله عز وجل : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ، أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ]الرعد : 28[
وتختبر هذه القلوب وتمحص بالابتلاءات كما حدث مع عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي نزل فيه قول الله تبارك وتعالى : إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ]النحل : 106[ ، ففي هذه الآية يوضح الله عز وجل أن صاحب القلب الثابت الصابر المرابط لا يتأثر قلبه بما ينطقه اللسان لنجاة الجسد من الهلاك ، ولقد روى ابن جرير عن أبي عبيدة قال :[ " أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كيف تجد قلبك ؟ " ، قال مطمئنٌ بالإيمـان ، قـال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عادوا فعد " ] .
والاطمئنان والصبر والمرابطة من ثمرات الإيمان والتقوى ، ففي غزوة بدر أمَدَّ الله المؤمنين بجند من عنده لتطمئن القلـوب بنصره ، وفي هذا المقام ، يقـول الله تبارك وتعالى : إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ ، بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصـرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ]آل عمران: 124 :126] ، ومن نداء القرآن للمؤمنين : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ]آل عمران : 200[ .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله بطمأنة القلوب وتثبيتها وخشوعها ، ومن هذه الأدعية قوله : " قل اللهم إنى أسألك نفساً بك مطمئنة تؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك " (رواه الترمذي) ، وقوله " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن دعاء لا يسمع ، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع " (رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد) .
قلوب المؤمنين سليمة طاهرة زكية :- القلب السليم هو الذي سَلُمَ من الآفـات والأمراض والأسقام ، وإذا طهر القلب من ذلك طهرت الجوارح جميعاً واتجهت نحو ما يُرضي الله عز وجل ، فالجوارح أتباع للقلب ، ومن صفات المؤمنين أن الله عز وجل قد طَهَّر قلوبهم من الغل الذي هو أساس كل خطيئة ، ولقـد أشار الله سبحـانه وتعـالى إلى ذلك ، فقـال : وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ]الحجر : 47 [ ، وجزاء هؤلاء الجنة على سرر متقابلين .
وكان سيدنا إبراهيم عليه السلام يدعو ربه ويقـول : وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ ]الشعراء : 87 : 89[ ، ولقد ورد عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : " قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان وجعـل قلبه سليماً " (رواه أحمد) ، ومن دعـاء الصالحين الذين طهـرت قلوبهـم مـن الغـل : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ]الحشر : 10[ .
وعلى النقيض مما سبق ، فقد وصف الله عز وجل المنافقين واليهود بأنهم قوم لم يطهر الله قلوبهـم لأنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم بسبب الكفر والعصيان وسوء الأخلاق وفي هـذا المقام يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ٌ ]المائدة : 41[.
ومن الأدعيـة المأثـورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم نق قلبي من الخطايا " (رواه البخاري ومسلم) ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمسلم ويقول له : " اللهـم اغفر ذنبه وطهر قلبه " (رواه أحمد ) ، ولقد ورد في السنة النبوية الشريفة أن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشقت صدره واستخرجت قلبه وغسلته بماء زمزم ، وهذا ما أشار الله إليه في سورة الانشراح بقوله عز وجل : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ]الانشراح : 1 :4[ .
قلوب المؤمنين نقية ورعة صالحة :- من صفات قلوب المؤمنين التقوى ، والتقوى محلها القلب ، ولقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تشير إلى ذلك ، منها قـول الله عز وجل : ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ ]الحج : 32[ ، فالقلب التقي الورع يحرص صاحبه كل الحرص على الالتزام بأوامر الله في كل أحواله ، ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " التقـوى هاهنا ، التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا " ويشير إلى صدره وهو موضع القلب ( رواه مسلم ) ، وصاحب القلب التقي من خير الناس ، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خير الناس؟ " ، قال : " كل مؤمن مخموم القلب " قيل : " وما مخموم القلب ؟ " فقال : " هـو التقـي النقي الذي لا غش فيـه ولا بغـي ولا غـدر ولا غـل ولا حسد " (رواه ابن ماجة) .
ويمتحن الله سبحانه وتعالى درجة إيمان قلوب المسلمين بمدى التزامهم بتعاليم الله ورسوله ، كما ورد في قوله تعالى عندما أمر المؤمنين بخفض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْر عَظِيمٌ ٌ ]الحجرات : 3[ ، فهؤلاء المؤمنون الذين امتثلوا لأمر الله عز وجل وهو خفض الصوت في حضـرة رسـول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم الله بذلك في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ]الحجرات : 2[.
ومن تقوى القلب أن لا يتبع الإنسان هوى نفسه الأمّارة بالسوء لأنه محاسب على ذلك ، وفي هذا المقام يقول الله تعالى : وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ]الإسراء : 36[ ، ويقصد بالفؤاد في هذه الآية القلب .
ومن ومضات القلب التقي أنه يهدي صاحبه ويرشده إلى الخير ، فعن وابصة بن معبد رضـي الله عنـه قال : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " جئت تسألن البر ؟ " قلت نعم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمئن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " (رواه الإمام أحمد) .
قلوب المؤمنين لينة رقيقة رحيمة :- من صفات قلوب المؤمنين الرقة واللين والألفة والرحمة ، فقـال الله تعـالى في وصـف قلوب بعـض رسله وأنبيـائه : ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُـوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ]الحديد : 27[ .
ومن الصفات والأخلاق الحميدة التي كانت في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان رقيق القلب رءوفاً رحيماً ، يقول الله عز وجل عنه صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ]التوبة : 128[ ، ويثني الله عز وجل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِك ]آل عمران : 159[ .
ومن الأعمال التي تُكسِبُ لين القلب ورقته قـراءة القرآن الكريم والصلاة والدعاء والذكر ، ودليل ذلك من القرآن الكريم قول الله عز وجل : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ]الزمر: 23[.
وأصحاب القلوب الرقيقة من المبشرين بالجنة ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قـربى ومسـلم وعفيـف متعفـف ذو عيـال" (رواه مسلم) ، ويصنف الرسول القلوب إلى أنواع منها اللينة الرقيقة ، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من المؤمنين من يلين لي قلبه " (رواه أحمد) ، وعندما كان يخطب الرسول صلى الله عليه وسلم في المسلمين ويعظهم كانت أعينهم تدمع وترق قلوبهم ، فقد ورد عن بعض الصـحابة رضوان الله عليهم : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظـة فاضـت منها العيون ورقت القلوب ) (رواه أحمد) .
قلوب المؤمنين متآلفة متحابة متآخية :- من صفات قلوب المؤمنين التآلف ، وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ورزق يتفضـل به على من يشـاء مـن عبـاده ، ودليل ذلك من القـرآن الكريم قـول الله عـز وجـل : وَاذْكُرُوا نِعْمَــــتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ]آل عمران :32[ ، ويقـول الله عـز وجـل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين : وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]الأنفـال: 62-63[.
ولقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليف قلوب الكفار والمشركين في مكة والمدينة ، بعد أن كانوا أعداء يضرب بعضهم رقاب بعض ، وبعد أن كانوا يكيدون للإسلام كل الكيد ، وهذا ما فعله مع عظماء المشركين بالكلمة الطيبة وبالمال ، وكذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم مع الأوس والخزرج ، وعندما دخل مكة فاتحاً قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
وعندما تتآلف القلوب تتحد كأنها قلب واحد ، فقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم قلوب المؤمنين بقوله : " قلوبهم قلب واحد " (رواه البخاري) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف " ، وعنـه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المؤمن ألف مألـوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ".
وعندما تتآلف القلوب ، يتحاب أصحابها ، ويصبحوا إخواناً في الله ، يحبون في الله ، ويبغضون في الله ، ويعطون لله ، ويمنعون لله ، وإذا أحب المسلم الله ورسوله صِدْقا ، أحبه عباد الله الصالحين ، وهذا ما يطلق عليه : الحب في الله ، ولقد ورد في هذا المقـام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حقت محبتي للمتحابين في ، وحقت محبتي للمتباذلين في ، هم على منابرٍ من نورٍ ، يغبطهم بمكانهم النبيـون والصـديقـون والشهـداء " (رواه الإمام أحمد) .
ومن دعاء المتآخين في الله : " اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك ، والتقت على طاعتك ، وتوحدت على دعوتك ، وتعاهدت على نصرة شريعتك ، فوثق اللهم رابطتها ، وأدم ودها ، واهدها سبلها ، واملأها بنورك الذي لا يخبو ، واشرح اللهم صدورها بفيض الإيمان بك ، وجميل التوكل عليك وأحيها بمعرفتك ، وأمتها على الشهادة في سبيلك ، إنك نعم المولى ونعم النصير " (دعاء رابطة الأخوة) .
قلوب مهدية واعية يقظة :- من صفات قلوب المؤمنين أنها مهدية إلى اليقين والاستسلام التام لقدر الله ، وأصل ذلك قوله تبارك وتعالى : وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ ]التغابن : 11[ ، ولقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسير هذه الآية : " يعني هداية قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه " ، وهذا المعنى وارد أيضاً في قول الله سبحـانه وتعـالى : اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ]الفاتحـة : 6[
، وتعني اهد قلوبنا إلى الالتزام بدينك وبشريعتك ، والهـداية والتأييد من الله فهـو القائـل في وصـف المؤمنين : لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِـزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُـمُ المُفْلِحُون َ ]المجادلة:22[.
وصاحب القلب المهدي إلى الصراط المستقيم تجده دائما واعياً يقظاً خشية أن يوسوس إليه الشيطان فيضل الطريق ويصبح من الغافلين ، وهذا ما ورد في تحذير الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين في قوله سبحانه وتعالى : وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ]الكهف : 28[ ، والقلوب أنواع مـن حيث درجة الوعي ، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "القلـوب بعضها أوعى من بعض" (رواه الإمام أحمد) .
وقلب المؤمن واعظ له يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبده خيراً جعل له واعظاً من قلبه ، يأمـره وينهـاه " (رواه ابن ماجة والديلمي) والقلـب اليقـظ ينكر المعاصي ويتجه إلى الله سبحانه وتعـالى بالاستغفار ، فقد قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء …. " (رواه مسلم وأحمد)
ويجب على المسلم أن يكون حاضر القلب في الذكر والدعاء حتى يقبل الله منه ذلك فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يستجيب الدعـاء من قلـب غافـل " (رواه الترمذي) ، ومن الأدعيـة المأثـورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقـام : " اللهم إني أسـألك رحمـة من عنـدك تهـدي بها قلبي " (رواه الترمذي) ، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " … رب تقبل توبتي ، واغسل حَوْبتي ، وأجب دعوتي ، واهد قَلْبي ، وسدد لساني ، وثبت حجتي ، وأسْلُلْ سخيمة قلبي " ( رواه ابن ماجة ) .
كيف تكون من أصحاب القلوب المؤمنة ؟
ذكرنا فيما سبق صفات قلوب المؤمنين … ويحتاج المسلم دائماً إلى زاد ليقوى الإيمان في قلبه ، وليجنبه الآفات حتى لا يمرض القلب ويموت ولقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجـدد الإيمـان في قلـوبكـم " (رواه الطبراني والحاكم) ، ومن وصايا الصالحين : " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أم ينقص ، وإنه من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنّى يأتيه " .
ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جددوا إيمانكم قيل : يا رسول الله : وكيف نجدد إيمانناً ؟ ، قال : " أكثروا من قول لا إله إلاّ الله " (رواه الحاكم) .
وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون لبعضهم البعض : هيا بنا نؤمن ساعة .
More Sharing ServicesShare | Share on facebook Share on myspace Share on google Share on twitter