الحمد لله الذي جعل لنا منهجاً نتبعه, وصراطاً مستقيمًا نسلكه, وجعل رسولاً كريمًا إماماً لنا في سلوك هذا الصراط, وقدوة نئتسي به في السير على هذا المنهج, وأصلى وأسلم على نبينا محمد الذي جعله الله لنا قدوة, وجعل لنا في خُلقه وسلوكه وعبادته أسوة, وعلى أصحابه المهتدين بهدية, وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
وبعد :
لقد كان الناس في جاهلية جهلاء ، يقتل بعضهم بعضا ، ويسرق بعضهم بعضا ، القوي يقتل الضعيف ، والغني لا يعطف على الفقير ، بل كانوا يعبدون الأصنام ، يعبدون الحجر والشجر ، بل إن بعضهم يصنع له صنما من التمر ، فإذا جاع أكله ، وكان بعضهم إذا ذهب في طريق ثم أراد أن يتناول الغداء ، توقف وذهب يبحث عن ثلاث حصيات ، ثنتان للقدر ، وواحدة يسجد لها ، كان الواحد منهم إذا رزق بأنثى اسود وجهه وانطلق يدفنها وهي حية ، يصنعون ذلك خوفا من العار وتوفيرا للمال - كما زعموا - قال صل الله عليه وسلم ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾
عباد الله :
وبينما هم كذلك بعث الله فيهم محمدا صل الله عليه وسلم بعثه رحمة للعالمين ، فآمن به نفر قليل ، منهم أبو بكر الصديق وعلي وخديجة ، وكذبه أناس كثير ، وآذوه وعادوه .
ومضى رسول صل الله عليه وسلم ينفذ أمر ربه ، ويدعو الناس إلى عبادة الله وحده ، يدعوهم إلى الإسلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، وسار على ذلك يدعو الناس سرا ، وبعد أن مضى ثلاث سنوات ، أمره الله أن يصدع بالأمر ، وأن يدعو جهرا لا سرا ، فقال صل الله عليه وسلم ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ قال صل الله عليه وسلم ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ .
وظهر أمر رسول الله صل الله عليه وسلم وانتشر خبره ، فقام رجال من أشراف قريش ، وذهبوا إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وظلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فقال لهم قولا رقيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه .
أيها المسلمون :
وواصل رسول الله صل الله عليه وسلم دعوته ، وأبو طالب يدافع عنه ، حتى انتشر خبره في كل مكان ، فتذمرت قريش ، وحرض بعضهم بعضا على رسول الله صل الله عليه وسلم ، فانطلقوا مرة أخرى إلى أبي طالب ، وقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا لن نصبر على هذا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، فجاء أبو طالب إلى رسول الله صل الله عليه وسلم وقال : ياابن أخي إن قومك قد جاؤني فقالوا كذا وكذا ، فأبقي علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ، فدمعت عينا رسول الله صل الله عليه وسلم وظن أن عمه أبا طالب سيخذله ويسلمه لقريش ، فقال ياعم : والله لو وضعوا السمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ، ثم استعبر رسول الله صل الله عليه وسلم وبكى ثم قام وذهب ، فلما ولى ناداه عمه ، وقال أقبل ياابن أخي ، فأقبل عليه فقال : اذهب ياابن أخي فقل ما أحببت ، وتكلم لما شئت ، فوالله لا أسلمك لشيئ أبدا .
فعلمت قريش أن أبا طالب أبى خذلان الرسول ، فذهبوا إليه وقالوا : نعطيك من أولادنا ما تشاء وأعطنا ابن أخيك نقتله ، فغضب أبوطالب وقال : بئسما تسومونني ، هذا والله لا يكون أبدا .
أيها المسلمون :
ومضى رسول الله صل الله عليه وسلم يبلغ أمر ربه وهو مطمئن البال ، فالله معه في كل وقت ، ثم معه عمه أبو طالب يدافع عنه ، وزوجه خديجة يشكو إليها وتؤازره وتناصره .
عباد الله :
لما علمت قريش أن أبا طالب مرض وظنوا أنه سيموت في ذلك المرض ، جاؤا إليه وقالوا له : يا أبا طالب قد علمت ما بك اليوم من المرض ، فاجعل بيننا وبين ابن أخيك مخرجا ، فخذ منا ما تشاء وليعطنا ما نشاء ، فأرسل أبو طالب إلى الرسول صل الله عليه وسلم ، فجاءه وكان عنده كبراء قريش ، فقال أبو طالب لابن أخيه هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا ليعطوك وليأخذوا منك ، فقال صل الله عليه وسلم : نعم يعطوني كلمة واحدة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ، فقال أبو جهل : نعم ، بل لك عشر كلمات ، فقال صل الله عليه وسلم : قولوا لا إله إلا الله ، فغضبوا أشد الغضب ، وقالوا : أجعلت الآلهة إله واحدا إن هذا لشيئ عجاب .
ومضى رسول الله صل الله عليه وسلم ينفذ أمر ربه بكل قوة وثبات ويدعو إلى الله وإلى ترك الجهالات والسخافات .
ولكن عباد الله :
جاءت المصيبة العظمى على رسول الله صل الله عليه وسلم فمات أبو طالب وخديجة في عام واحد ، فتتابعت المصائب على رسول الله صل الله عليه وسلم ، فنالت قريش من رسول الله صل الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى وصل الأمر إلى أن جاء سفيه من سفهاء قريش فنثر على رسول الله التراب ، ودخل إلى بيته والتراب على رأسه ، فقامت إحدى بناته فغسلت عنه التراب وهي تبكي ، فقال لها : يابنية لا تبكي فإن الله مع أبيك .
وكان صل الله عليه وسلم يقول : ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب .
نعم عباد الله :
لما مات أبو طالب اشتد أذى قريش للرسول صل الله عليه وسلم فنالوا منه ، فخرج صل الله عليه وسلم إلى الطائف يبحث عن أحد ينصره ويحميه ويؤمن به ، فلما وصل إلى الطائف ذهب إلى نفر من ثقيف وعرض عليهم الإسلام وطلب منهم أن يساعدوه وينصروه على عدوه ، فقالوا بكل قبح واستهزاء : أما وجد الله أحدا غيرك يرسله ؟ فقام صل الله عليه وسلم من عندهم أسفا ، فضحكوا منه ، وأرسلوا عليه أولادهم وسفاءهم يطاردونه ويرمونه بالحجارة ، فهرب إلى حائط كان هناك ، ثم رجع السفهاء بعدما أدموا عقبيه بالحجارة ، فصبر الرسول على ذلك ، ورفع يديه إلى خالقه ومولاه فقال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن رحمتك أوسع لي .
عباد الله :
ثم رجع صل الله عليه وسلم إلى مكة مصرا على مواصلة الدعوة ، وكان أهل مكة أشد ما كانوا عليه من العداوة للرسول ، إلا نفر قليل من المستضعفين الذين آمنوا به ، فبدأ صل الله على وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب ، ويدعوهم إلى الإسلام ، فآمن به نفر من الأنصار ، واشتد عزمه صل الله عليه وسلم حتى إذا كان في العام المقبل واصل دعوته في المراسم ، فكانت بيعة العقبة الأولى .
أيها المسلمون :
ثم تتابع النصر لرسول الله صل الله عليه وسلم وكثر أتباعه ، وهاجر المسلمون إلى المدينة ، واستقبلهم الأنصار ، وازداد عدد المسلمين ، ثم توالت الغزوات والفتوحات .
عباد الله :
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولكل مسلم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .