زائر زائر
| موضوع: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ الخميس يناير 23, 2014 7:11 am | |
| الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله -عز وجل-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ)، لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء مدين، وصل إليه وهو مجهد ومكدود، وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة والفطرة السليمة كنفس موسى -عليه السلام-، وجد الرجال الرعاة يوردون أنعامهم لتشرب الماء، ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، ويكفكفانها خوف أن تذهب مع غنم القوم فيؤذيهما الرعاة، وحياءً من التزاحم مع أولئك الرجال، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة إذا اجتمع مثل هؤلاء الرجال وليس معهم إلا هاتان المرأتان الضعيفتان أن لا يتجاهلوهما، بل يعينوهما ويفسحوا لهما لتسقيا وتصدرا بأغنامهما أولاً، ولم يقعد موسى الهارب المطارد المسافر المكدود ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنافي للمروءة والأدب والمعروف، والمؤثر في النفس الحية الزكية، وهذه فائدة أخرى في قوة النفس والهمة والحرص على الخير وفعله ما أمكن في مختلف الظروف والأحوال، وعدم التكاسل عن الأعمال بحجة التعب أو الهم، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مطارد في طريق الهجرة يلقى ركبًا فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون، وهذا يوسف -عليه السلام- من قبل وهو في الحبس يدعو من معه إلى توحيد الله -عز وجل- إذ يقول: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف:39]. وهذا شأن من يعدهم الله للقيام بدعوته، ويختارهم لحمل رسالته.
وهذا موسى -عليه السلام- واحد منهم، فيه ما في الأنبياء من هذه الصفات الرفيعة، وتلك الهمم العالية، والعزائم القوية، فما أن وصل متعبًا بعد سفره الطويل، ويجد ذلك المنظر، حتى يتجه للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، فهما امرأتان ضعيفتان، ليس لهما أن يسقيا حتى ينتهي الرعاة الرجال، وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال، وثارت نخوة موسى -عليه السلام- وتقدم لإقرار الأمر في نصابه، فتقدم فسقى للمرأتين أولاً، في قوة وشهامة، ولا تنس أنه غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير، وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد، وهو مطارد من خلفه أعداء قساة لا يرحمون، ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)، بعد هذه الرحلة من العناء، ثم بعد ما قام به من ذلك المعروف، وما فيه هو الآخر من جهد، يبدأ يفكر في نفسه وما يصلحها، فأوى إلى ظل شجرة، في ذلك الجو من القيظ والحر، متوليًا عن الناس والسقاية وضوضاء الحياة، في خلوة بنفسه ومع ربه، وهو جو له مذاقه في النفس المتعبة المطاردة، ثم الاتجاه إلى رافع السماء (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، ربي: إني في الهاجرة، رب: إني فقير، رب: إني وحيد، رب: إني ضعيف، رب: إني إلى فضلك ومَنِّك وكرمك فقير محووج، وهو أدب المؤمن في اتجاهه إلى ربه طلبًا لما عنده.
يبدأ بالطاعة وصنع المعروف، ثم يثني بالتذلل والمسكنة والانكسار، وذكر فقره وحاجته بين يدي ربه وخالقه.
وإذا بالقوي العزيز يفتح على عبده الفقير أبواب السماء باليسر والخيرات، ويبين الله -عز وجل- في صورة عملية واقعية ما يجب اعتقاده من أن الفرج والرزق يأتي من الله -عز وجل- مهما رأى الإنسان الظروف حالكة، والشدائد قاسية، فإن مقاييس الأرض تقول: إن الإنسان إذا كان هاربًا مطاردًا فإنه لا يستطيع أن يجد رزقًا ولا يجد زوجة ولا يجد غنى، وكم من أناس تركوا التزامهم بدينهم وابتعدوا عن الدعوة إلى دين الله تأمينًا لأنفسهم من المخاطر؛ حتى يستطيعوا الحصول على عمل أو زوجة، وهم لا يعلمون أن الله قادر على أن يأتيهم بالأمن من حيث الخطر، وأن يأتيهم باليسر من العسر، وأن يأتيهم بالفرج من الكرب، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 106، 107].
فتأملوا ما يأتي من الآيات لتعلموا أن الله قادر على أن يرزقكم من حيث لا تحتسبون، وأن ينعم عليكم بما لا تتوقعون، وأن يأتيكم بالخير من حيث تخافون، وأن يأتيكم بالفرج من حيث لا تنتظرون، فها هو موسى -عليه السلام- بعد اتجاهه إلى ربه يأتيه الفرج متتابعًا، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في أدب وعفة دونما تبذل أو تبرج أو تبجح، جاءته لتبلغه أمرًا في أقصر لفظ وأدله وأخصره: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، هكذا في حياء مع رقة ووضوح وجد واختصار وعدم تلجلج، وهكذا تكون الفتاة العفيفة إذا تكلمت، ولم يكن موسى يريد بما صنع أجرًا منهم، وإنما فعله مروءة وشهامة، لكن كتب الله له الفرج من حيث لا يتحرى أو يقصد: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، لقد كان موسى في حاجة إلى الأمن والطمأنينة، وهاهو يقيض له هذا الشيخ الكبير، والشيوخ الكبار حين يكسوهم لباس التقوى والوقار يكونون هم بذاتهم وبكلامهم مبعثًا للأمن والطمأنينة، وهاهو ذلك الشيخ الحكيم، لا يبادر فيتحدث عن السقيا وأجرها، بل يستمع القصص والأحداث التي مر بها موسى -عليه السلام- حتى الآن، ثم يبدأ قبل أي شيء بإنشاء جو الطمأنينة والأمن على هذا الغريب المطارد المتعب: ( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فأنت الآن في أرض مدين، بعيدًا عن فرعون وجنده، حيث لا سلطان لهم على هذه البلاد، ولا يمكن أن يصيبك أحد الآن بسوء.
وبعد هذا الجو من الأمان، إذا بالنعمة الأخرى -نعمة العمل والرزق- يجدها هذا الغريب الذي فارق الديار هاربًا من البطش دون أن يبحث عنها، بل تأتيه من حيث لا يحتسب: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)، وهذا الطلب من الفتاة دلالة سلامة فطرتها، فالمرأة إذا سلمت فطرتها أحبت الابتعاد عن الخروج ومزاحمة الرجال في الأعمال، ومن ثَمَّ طلبت ابنته أن يستأجر من يرعى لهم ويسقي، وتبقى ابنتا الشيخ في البيت.
وإذا بالشيخ يقبل ذلك ويعرضه على موسى -عليه السلام- ومعه نعمة أخرى جديدة، ألا وهي الزواج: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين، (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ)، أي فهو فضل منك لكن لا يلزمك، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)، أي في معاملتك والوفاء معك، وهكذا تأتي الزوجة لموسى -عليه السلام- ذلك الغريب المنقطع دون أن يبحث عنها أو يطلبها، بل تعرض عليه في تلك الصورة الخالية من التكلف والتصنع.
(قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ)، أي كما اتفقنا، (أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ)، الثماني سنوات أو العشرة، (فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)، وقضى موسى أتم الأجلين وأكملهما، وقيل: كان الشيخ شعيبًا -عليه السلام-، وقيل: بل غيره؛ لأنه لو كان شعيبًا لكان ذلك بعد هلاك المكذبين وبقائه مع المؤمنين، وبَعِيدٌ أن يترك المؤمنون ابنتي نبيهم هكذا ويسقون قبلهما ويتجاهلونهما.
ثم كانت النعمة العظمى بعد هذه النعم كلها، وهي نعمة النبوة والرسالة كما يقول المولى -عز وجل-: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ) [القصص:29]، وذلك ليعود لزيارة أهله وبلاده خفية عن فرعون (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا)، أي في أثناء الطريق حين وصل للطور، وكان يريد الضوء والدفء، وكان في ليلة مطيرة مظلمة: (قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، ليعلموا الطريق الصحيح، (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، أي شعلة تستدفئون بها من البرد، (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ)، أي من يمين الجبل، أي جهة القرب، وذلك بالنسبة لموقف موسى، حيث كان مستقبلاً مكة والجبل بينه وبينها، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [القصص:30].
وهكذا انتهت هذه الرحلة الطويلة التي بدأت بالهروب من فرعون، ثم انتهت بالرزق والزواج والنبوة والوحي؛ ليعود بالأمر إلى فرعون وملئه داعيًا لهم إلى الله -عز وجل-. نسأل الله -عز وجل- أن نكون قد انتفعنا بما في تلك القصة كما يرويها القرآن من الفوائد والعبر، وأن يكون كل منا قد وجد فيها ما هو شفاء لما في صدره، وأن يستصحبها في كثير من الظروف والمواقف.
اللهم انفعنا بالقرآن وبسير الأنبياء وهديهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
|
|